الفجر المظلم (الحلقة الثالثة)قراءة المعطيات الدينية لزوال إسرائيل.

أ.د/ خالد أحمد القيداني
وجود إسرائيل وعلو شأنها في فلسطين مسلمات دينية دامغة ومؤكدة في الشريعة الإسلامية، واليهودية، والمسيحية، ومسألة زوالها كذلك.. كل الإشارات التي وردت في ذلك واضحة بينة، الغموض فقط، يعتري مسائل تفسيرها، وزوايا النظر إليها، فرؤيتها تختلف باختلاف الخلفيات الفكرية والمعرفية، ومع أن المضمون ثابت راسخ، إلا أن المدلول لازال يترنح في زوايا التأويل الذي تتجاذبه خلافات المفسرين.. نعم، هم يتفقون جميعهم على أن لإسرائيل نهاية، لكنهم يختلفون على الكيفية التي ستحدث بها، وفي هذه الدراسة نحاول أن نعيد قراءة المضمون الديني في الشرائع الإسلامية واليهودية والمسيحية من منظور واقعي صرف بعيدًا عن أي تسطير للخرافات أو تصدير خيالي، فعلى الرغم من استعراضنا لمضامين تستند على الفكر التفسيري للموروث الديني في هذا الشأن، إلا أنها دلائل استرشادية تخدم محور إعادة الصياغة لا أكثر ولا أقل.
على العموم، سيتم في هذا القسم تناول المعطيات الدينية في القرآن الكريم وفي التوراة وفي الإنجيل على النحو التالي:
أولاً: معطيات القرآن الكريم: (القرآن الكريم بحرٌ عظيمٌ معطاء، لا يدرك نَفائِسهُ إلا من غاص فيه).
من خلال مراجعة آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن بني إسرائيل وخاصة الآيات موضع التحليل في سورة الاسراء: “وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً؛ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً؛ ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً؛ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً؛ عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً” سورة الإسراء الآيات 4-8.
ولاستعراض ما سبق عُمقًا وتحليلًا فإنه سيتم التعرض للآيات القرآنية بمزيدٍ من التفصيل والتوضيح والشرح بالاستدلال، استقراءًا واستنباطًا وذلك على النحو التالي:
1- مدلولات الخطاب الديني: (في العلم، من تحقق نهل، ومن تفكر استدل، ومن تحقق وتفكر وصل):
- مضمون الخطاب ونبوءته: يوضح الخطاب القرآني في هذه الآية مجموعة من المدلولات التي تبين علو بني إسرائيل في الأرض مرتين وإفسادهم فيهما، وتوضح أن تدميرهم في المرة الأولى كان من قوم أولي بأس شديد؛ ومن ثم تبين أن هناك عودة لبني إسرائيل وسيتم تدميرهم فيها للمرة الثانية، ومن ثم محاولتهم العودة للمرة الثالثة (وإن عدتم عدنا).
- عمومية الخطاب وخصوصيته: الخطاب في الآيات الكريمة ابتداءً وانتهاءً حال كل القرآن الكريم موجه على العموم إلى جميع الخلق (إنسهم وجنهم)، إلا أنه على الخصوص يوضح حصراً أقدار الله تعالى على طرفين هما المُتَبَرين والمُتَبِرين، الأول المُتَبَرين: وهم في الخطاب المباشر بني إسرائيل، والطرف الثاني المُتَبِرين: ويمثلون القوم الذين سلطهم الله تعالى، أولي البأس الشديد والذين سيدمرون بني إسرائيل، وهم نفس الفئة في المرتين، كما سيتم توضيحه عند التحليل لاحقًا.
- نجد أن الآيات إجمالًا قد أشارت إلى عدة أمور واضحة لا لبس فيها ولا غموض وتتلخص في الآتي:
- فساد بني إسرائيل وعلوهم في الأرض مرتين.
- دمار علوهم الأول من قبل عدوٍ لهم أولي بأس شديد.
- علو بني إسرائيل للمرة الثانية نفوذًا وهيمنة على عدوهم الذي سحقهم في العلو الأول.
- استقرار بني إسرائيل في موضع الوعد الثاني (فلسطين) لعشرات السنين؛ لإشارة الآيات إلى تعاقب أجيالهم فيها وامتلاكهم الأموال الطائلة: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾.
- غلبة بني إسرائيل على كل من حولهم، وخاصةً ظهورهم على عدوهم المذكور في الآيات.
- حتمية مهانة وذل وانكسار بني إسرائيل في العلو الثاني، وحتمية أنه سيكون على أيدي من سحق علوهم الأول في المسجد (فلسطين)، وهو مؤذن بخروجهم وفرارهم من فلسطين، فلا بقاء بعد خراب ودمار.
- عدم هلاك بني إسرائيل في فلسطين في المرة الأخيرة، وإنما سيكون هروبهم منها خاسئين منكسرين.
- أوضحت الآية بأن لبني إسرائيل محاولة عودة إلى فلسطين للمرة الثالثة: “وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا”، لكنها ستكون المرة الأخيرة التي فيها سيتم سحقهم وفناؤهم إذ لم يأتِ بعدها إلا ذكر جهنم التي هي المآل الأخير لكل العاصين والمذنبين ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾.
2- تحليل المضمون للآيات القرءانية: (من تعمق في المكنون فهم المضمون).
- المعاني اللفظية: دلت كل المعاني اللفظية للآيات الكريمة على معنى ذي دلالة واضحة لا لبس فيه ولا غموض على الآتي:
- ﴿وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾، قضاء الله تعالى (أمره النافذ وحُكمه القاطع)، وجاء بعده حرف الجر (إلى) بمعنى أن الله تعالى أَطْلَعَ بني إسرائيل على ما سيفعلونه في المستقبل، أي أورد إليهم خبرهم الذي سيكونون عليه، وأشعرهم وأخبرهم بما سيكون منهم، وحرف الجر(إلى) يوضح أن بني إسرائيل سيرتكبون الفعلين الأول والآخر بإرادتهم وهو هنا إشعار بقدرة الله تعالى على الاطلاع على علم الغيب، بينما لو جاء القضاء بعد حرف الجر (على) فإن المعنى هنا سيختلف، حيث كان سيفيد أنه تعالى قد حكم عليهم بقضاء سيفعلونه جبرًا لا اختيارًا، وبالتالي فإنه القضاء كان سُيعد قدرًا ثابتًا ويصبح مصيرًا حتميًا وهو هنا سيكون عملًا معلومًا فعله بالضرورة، وهذا يتنافى مع قدرة الله تعالى للاطلاع على الغيب قبل أن يكون، وعلى الرغم أن القدر الذي قُضي على بني إسرائيل يعتبر في الحالتين مصيرًا مكتوبًا لا يمكن رده، إلا أن المعنى اختلف باختلاف حرف الجر من حيث تحديد القيام بالأعمال باختيار وحرية مطلقة، أو القيام بها جبرًا كما أسلفنا، وفي نفس المعنى الذي وضحناه وشرحناه قول الله تعالى للنبي لوط عليه السلام: “وَقَضَيۡنَآ إِلَيۡهِ ذَٰلِكَ ٱلۡأَمۡرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰٓؤُلَآءِ مَقۡطُوعٞ مُّصۡبِحِينَ” سورة الحجر الآية 66، أي أطلعنا لوطًا وأخبرناه بأنه قد حُكِم على قومه بالهلاك، أما الكتاب المقصود في الآية الكريمة: “وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ”، فهو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى كما جاء في قولة تعالى: “وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا” سورة الإسراء الآية 2.
- المقصود بقوله تعالى: “لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً” أي أنهم (بني إسرائيل) سيفسدون في الأرض مرتين مع علو شأنهم (بالعظمةِ والتجبرّ والمكانة والقيمة)، وقد جاءت كلمة العلو في القرآن الكريم لتوضح الكبر والتَعَظُّم والتَرفُع والتجبر مع ارتفاع المكانة، وفي ذلك نجد الكثير من الآيات في القرآن الكريم التي توضح ذلك، ومنها قوله جل وعلا: “سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا” سورة الإسراء الآية 43، وقال تعالى “وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ” سورة النمل الآية 14، وقال تعالى: “أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ” سورة النمل الآية 31، وقال تعالى: “الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” سورة القصص الآية 83، وقال تعالى: “وَأَن لَّا تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ ۖ إِنِّىٓ ءَاتِيكُم بِسُلْطَٰنٍۢ مُّبِينٍۢ” سورة الدّخان الآية 19. ومن خلال الآيات يتضح أن كلمة العُلُوّ وردت في القرآن الكريم لتشير إلى صفة خاصة بالله تعالى وهي مذمومة ومنبوذة ومكروهة من الله تعالى إذا جاءت كوصف لأيٍ من خلقه.
- أوضح الله تعالى أنه قد بعث(أخرج ووجه وسيّر)، على بني إسرائيل في وعد المرة الأولى (موعد وميعاد) عبادًا له، أولي بأسٍ، والبأس هنا بمعنى (أصحاب قتال وحرب)، كما جاءت في قوله تعالى: “قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا” سورة الأحزاب الآية 18، ومعناها يكون أوضح عندما نقرأها في قوله تعالى: “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ” سورة النحل الآية 81، وفي قوله تعالى: “عَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ” سورة الأنبياء الآية 80، أما كلمة شديد فجاءت في الآيات محل التحليل “أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ” لتوضح أن المسلطين على بني إسرائيل سيكونون (أصحاب شدة عظيمة في القتال والحرب)، وتفيد كلمة جاسوا أنهم (تردَّدوا جَيْئةً وذهابًا، طافوا مرّة بعد أخرى، طلبوا باستقصاء وحرص وتمعن)، وخلال الديار تبين (بين الديار ووسطها)، أما عبارة (وكان وعدًا مفعولًا) أي أنه منجزًا ونافذًا.
- جاء ذكر المرة الأخرى بعد حرف (ثُم) الذي يفيد الترتيب مع التراخي في الزمن، في إشارة إلى عودة الكَرَّة لبني إسرائيل على القوم أولي البأس الشديد بعد فترة من الزمن، رددنا لكم (كرّرنا وأعدنا وأرجعنا لكم) الكَرَّة (الدولة والغلبة) عليهم، وأمددناكم بأموال وبنين (أزدناكم، أكثرنا لكم)، وكلمة الإمداد في القرآن الكريم تعني الزيادة والدعم والعطاء والهبة، وإذا وردت مع الحياة والمعيشة فإنها تشير إلى الرغد والنعيم والترف العالي، وجعلناكم أكثر نفيرًا، أي جعلناكم أكثر أنصارًا وعشيرًة وجمعًا، والنفير هنا لا تفيد النفر بمعنى العدد، كما وردت كلمة (نفرًا) في القرآن الكريم في عدة مواضع، قال الله تعالى: “قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا” سورة الجن الآية1، وقال الله تعالى: “وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ” سورة الأحقاف الآية29، وفي الحج يقال يوم النفير الأول والثاني عندما ينفر ويَدفع فيه الحجاج من منى إلى مكة المكرّمة، وبحسب قواميس اللغة تفيد كلمة نفيرًا إلى الكُفْءُ عند المفاخرة، أو الأنصار من القومُ يَنْفِرُون للقتال، مثل أن نقول النَّفير العامّ عند دعوة النَّاس عامّةً لقتال العدوّ أو عند التَّعبئة العامَّة، وعلى العموم، تفيد كلمة النفير إلى جمع أو حشد من الناس وبشكل خاص، تشير كلمة نفير إلى أنصار الرَّجُل وعشيرتُه.
- ورد تحذير من الله تعالى لبني إسرائيل بضرورة أن يحسنوا لأنفسهم، مع الإشارة الضمنية أنهم لن يفعلوا، ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ﴾ أي أنكم إذا فعلتم ما هو حَسَنٌ بالطاعات وتركتم المعاصي فهو صلاح لأنفسكم وحياتكم ومعاشكم، ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ أي إذا قبُحَتْ أعمالكم وفَسَدَتْ، وفعلتم كل ما يُكره فهو على أنفسكم وبالًا ونقمًة، وقد جاء حرف إن المخففة في (الإحسان، والإساءة)، وكأنه يضعهم أمام خياران متاحان بنفس الدرجة من إمكانية القيام بهما من قبل بني إسرائيل، وفي العبارة: “فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة” أي المرة الثانية إشعار أن بني إسرائيل اختاروا الإساءة، لذا جاءت عبارة ﴿لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ كعقاب لهم، وهي تعني ليُقبِّحوا، ليُكّدِروا ليُغِيضوا، ليُؤلموا ويُحزِنوا وجوهكم: ليحزنوكم حزنًا يبدو ظاهرًا وباديًا في وجوهكم “وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ” وليلجوا إلى المسجد الأقصى: “كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ” جاءت كلمة (كما) لتشبيه صفة الدخول فقط، وهي لا تفيد في المعنى مماثلة الدخول، بمعنى أن من دخلوا المسجد في أول مرة هم من سيدخلونه في المرة الأخرى (الثانية)، فالأصل هي عبارة “وليدخلوا ما دخلوه أول مرة”، والكاف(ك) يأتي للتشبيه المرسل الذي يفيد بيان حالة، ووجه الشبه هو الوصف الخاص الذي يفيد صفة الدخول إلى المسجد الأقصى فقط، وليس ذاته؛ فيُقصد هنا اشتراك الطرفين في صفة التشبيه التي تفيد تشابه الدخول لا كيفيته، وقد جاء كاف التشبيه بعد إيراد مكان الدخول (المسجد) لتوضيح الدخول إلى المسجد تحديدًا وتأكيدًا ولإبراز المعنى.. بينما لو أريد بالمشابهة المماثلة الكاملة في تشبيه الدخول وفي كيفيته، فإن العبارة ستكون: (وليدخلوا المسجد مثل ما دخلوه أول مرة) فأداة التشبيه (مثل) تفيد المشاركة في جميع الصفات والأوصاف بينما المشابهة بـ(الكاف) تفيد المشاركة في بعض الصفات والأوصاف، لذلك قال الله تعالى﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾[الشورى الآية 11]. فسبحانه جل وعلا نفى أن يكون لمثلهِ أي مثيل على الإطلاق، لا في الصفات (بورود كاف التشبيه) ولا في الذات (بورود كلمة مثل) ولهذا التشبيه بلاغة مُطلقة، وبيان عظيم في تفرده تعالى فلا شيء يشاركه في بعض صفاته ولا ندًا مطابقًا له في كل صفاته، والله أعلم.
- من الحكمة الوقوف على عبارة﴿ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً﴾ شرحًا وقياسًا كونها توضح نقطة في غاية الأهمية، إذ أنه بالعودة إلى القرآن الكريم لم نجدها وردت كعبارة إلا مرتين، الأولى في الآية الكريمة موضع التحليل والثانية وردت في قوله تعالى: “وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ۖ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا” الفرقان الآية 39؛ والتي جاءت عقب ذكر الله تعالى للأمم التي عصته وغضب عليها، وكيف أنه جل وعلا عاقبهم بأن سحقهم ودمرهم تدميرًا، وهي في الآية موضع التحليل تؤدي نفس الغرض كونها وردت في شأن قوم أغضبوا الله تعالى واستحقوا عقابه وعذابه (بني إسرائيل) إلا أن عقابه سينفذ عبر تسليط الله تعالى عليهم أقوام من عباده، ولوحظ هنا أن العقاب أختلف باختلاف المنفذ فعندما كان الله تعالى هو المنفذ؛ فإن التنفيذ كان مطلقًا بأن تبرهم تتبيرا، أي سحق كل شيء ودمرهم تمامًا، بينما في تنفيذ البشر؛ فإن السحق سيكون مقيدا بما يستطيعون فعله وعمله، حيث أنه سيكون تدميرا محصورًا بما يمكن أن تصل إليه أيديهم وإمكاناتهم، فمعنى ﴿وَلِيُتَبّرُواْ﴾ ليدمروا ويهلكوا، ﴿مَا عَلَوْاْ﴾ ما غلبوا واستولوا عليه ووصلت إليه أيديهم ﴿تَتْبِيراً﴾ تدميرًا وخرابًا؛ المراد بالشرح السابق، هو إيضاح أن التتبير فعل يلازم العقاب والعذاب الذي يسحق ويدمر ويهلك، والإسلام يحرم هذه الأعمال في الحروب والقتال، إذا ففعل من سيدخلون فلسطين بالتدمير والسحق والخراب لا يمكن؛ بل ويستحيل أن يكون من عباد الله المؤمنين.
- بعد انتهاء أحداث المرة الأخرى جاء لفظ يوضح بأن الله جل وعلا سيرحم بني اسرائيل بعد الدخول الثاني، فالآية التي جاءت بعد انتهاء الوعد الثاني كانت تشمل الرحمة والعودة: ﴿عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا﴾، فـ(عسى) فعلٌ ماضٍ جامد من أخوات (كاد) يكون للتّرجِّي في الأمر المحبوب، وللإشفاق في الأمر المكروه، والكلمة في القرآن الكريم كُلِّه تدل على الوجوب، وهي دلالة واضحة بعدم فناء بني إسرائيل في الدخول الثاني؛ فلا رحمة تأتي بعد قتل وفناء وانتهاء، كما أن الآية أشارت للعودة: ﴿وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا﴾ ولا عودة إلا لباقٍ وقائم وموجود.
- محاولة عودة من بني إسرائيل إلى فلسطين للمرة الثالثة التي أشارت إليها الآية ﴿وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا﴾، كانت مسبوقة (إن) المخففة من (إنَّ) التي تأتي لأمور محتملة الوقوع، والمشكوك فيها، والنادرة، ومستحيلة الحدوث، وهي تدل على القلة بعكس (إذا) التي تدل على الكثرة وتأكيد الوقوع، لذا فإن ورودها في الآية الكريمة كان لتوضيح أن عودة بني إسرائيل ستكون محاولة فاشلة ولن تحدث، وهذا أمر مفروغ منه، فقد تم تأكيده تأكيدًا صريحًا وواضحًا بصريح النص القرآني الذي حدد علو بني إسرائيل في مرتين فقط كما في الآية موضع التحليل (لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ).
- التأكيد بأن تجمع بني إسرائيل في المرة الثانية سيكون هو الأخير ففي قوله تعالى: “فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا؛ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا” سورة الإسراء الآيات 103-104، وكأن الله تعالى أورد ابتداءً سورة الإسراء بتفصيل قصة بني إسرائيل واختتمها بخلاصتها، وفي ذلك توضيح عميق لبداية ونهاية قصة بني إسرائيل، وقد قال الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه أن عبارة أسكنوا الأرض غير محددة وهي تفيد الأرض جميعًا، وهذا يدل على شتات بني إسرائيل في كل الأرض، وفي الآية الكريمة ذكر إلى ما ستؤول إليه نهايتهم الحتمية التي قدرها الله تعالى عليهم.
- بالنظر إلى إقران الفعلان(عُدتّمْ) و(عُدْنَا) مع بعضهما عند أحداث محاولة بني اسرائيل العودة للمرة الثالثة؛ فقد كان لتوضيح أن الفعل ورد الفعل مقترنان ومتلاصقان، وهنا نشاهد بيان بليغ للغاية في صياغة الجملة: “وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا”؛ فقد جاءت (إن) هنا بمعنى الجزاء؛ فذكر جهنم جاء بعدها: “وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً”، وهي إشارة ذات دلالة عميقة تفيد بأنها ستكون المحاولة الأخيرة لبني إسرائيل، والتي سيكون فيها وبسببها فناؤهم ودمارهم وانتهاؤهم، إذ أنه لن يكون لهم بعدها إلا حصير جهنم، وما سبق يبين أن تلك المحاولة من بني إسرائيل ستكون لحظية يتبعها قضاء وعقاب الله تعالى مباشرةً، كما أن محاولة العودة قد صيغت بأفعال ماضية: “وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا” التي تبين حدثا محددًا مقطوعًا، على الرغم من أن وقوعها كأحداث مقدرة على بني إسرائيل سيكون مستقبلًا، وهو ما يتناسب مع سياق قطعية النبوءة حال الكثير من آيات قيام الساعة في القرآن الكريم على سبيل المثال، قوله تعالى: “وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ” سورة ق الآية 20، وقد ورد نفس الفعل في آية أخرى لكنه كان بالفعل المضارع والذي جاء لتوضيح استمرار الأحداث وديمومتها: “وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ” سورة الأنفال الآية 19.
نخلص إلى أن المعاني اللفظية للكلمات والعبارات الواردة في الآيات الكريمة محل التفسير والتحليل كانت واضحة ومحددة بشكل دقيق وبيّن، حيث إنها كشفت جوهر الموضوع الذي تناولته بشكل واضح وبعمق بياني فيه بلاغة مطلقة يتعذر معها التأويل أو التفسير خلاف ما تدل عليه ظاهرًا وتبينه مضمونًا. - المعاني التصويرية: دل النص القرآني للآيات الكريمة على عدد من المعاني التصويرية نوردها كما يلي:
- التصوير المكاني: المكان المقصود في الآيات هو المسجد الأقصى في فلسطين، وإن لم يرد ذكره في وعد المرة الأولى، إلا أن وعد المرة الأخرى قد أوضحه صراحةً وتأكيدًا حيث أشار إلى أن الدخول الآخر سيكون في نفس موقع الدخول الأول، والذي حدده الله تعالى في الآيات بالمسجد: “وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ”، وما من شك أن المسجد المقصود في الآيات هو المسجد الأقصى لأن بداية سورة الإسراء تتحدث عن الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن ثم جاءت بعد ذلك الآيات الكريمة محل التحليل.. ومن السياق الذي أتت به الآية الكريمة بأن جعل المسجد يأتي لفظاً في الدخول الثاني لتوضيح أن المرة الأولى والأخرى، إنما هما امتداد لبعضها البعض في الحال وفي المآل، وفي المكان ولكلا الفاعلين في المرة الأولى والأخرى.. أي أن الآية في مجملها تبين أن هناك اتصالاً وترابطًا في الدخول مفعولين وفاعلين من جهة، ومن جهة أخرى تبين وجود اتصال وترابط بين الوعدين كيفًا ومكانًا.. كما أنها توضح أن الاستثناء الآخر والأول متصلان فعلًا ومقطوعان زمانًا، وهنا إشارة إلى أن لسيطرة النصارى على اليهود استثناء في المرة الأخرى، فقد أشارت الآية الكريمة: “إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” سورة آل عمران الآية 55… أن للنصارى سيطرة أزلية على اليهود باستثناء وعد الآخرة المذكور في الآية موضع التحليل.
- تصوير الأحداث: تبين أن الدخول إلى المسجد الأقصى من القوم أولي البأس الشديد في المرة الأولى كان واقعًا بالدخول والتوغل خلال الديار إلى داخل المدينة بالقتال والمطاردة لبني إسرائيل وملاحقتهم والسعي في طلبهم؛ أما الوعد الآخر (وعد الآخرة) فسيكون من خلال عمل عظيم يقوم به القوم أولي البأس الشديد يُخزي بني إسرائيل ويهينهم ويمتهن كرامتهم، وفي ذات الوقت سيتم الدخول إلى المسجد كما دخلوه أول مرة في إشارة إلى الولوج خلال الديار أيضًا، مع قيامهم بتدمير وإهلاك كل ما تصل إليه إمكاناتهم وقدراتهم وأيديهم.
- التصوير الزماني: الوعد الأول، يوم نزول القرآن الكريم كان منجزًا ومفعولًا ذكره الله تعالى أنه قُدّر في الكتاب الذي أنزل على موسى: “وَءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ وَجَعَلْنَٰهُ هُدًى لِّبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلًا” الإسراء الآية 2، وقد أشارت الآيات إلى حدوث ذلك بعد زمن نبي الله موسى عليه السلام حيث قال تعالى: “وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ” الأعراف الآية 137، بينما أوضحت الآيات أن وعد الآخرة (الثانية) سيكون مستقبلًا، وحُدّد في الآية الكريمة بالوقت الذي يتجمع فيه بني إسرائيل مرةً أخرى في المسجد الأقصى، مع كثر أموالهم وجعلهم أكثر نفيرًا مع علو شأنهم فيه، ومن دقة التحديد أن الله تعالى وضح في الآيات الكريمة أنه سيكاثرهم في البنين، أي أنهم سيتكاثرون جيلًا بعد جيل، مما يعني أنهم سيلبثون في فلسطين عقودًا حتى يحين وعد الله.. وفي ذلك نوضح أن وعد الله تعالى لبني إسرائيل بالشتات في عهد نبي الله سيدنا موسى عليه السلام كان محددًا في أربعين سنة، وقد فُسر بأنه الزمن الذي يسمح بمجيء الجيل الذي يجدد مجتمع بني إسرائيل وهنا وفي ذات السياق، فإننا نفسر أن أفضل تعبير عن التكاثر هو مرور ضعف مدة تجدد الجيل؛ إذًا، فالمدة التي سيلبث فيها بني إسرائيل في فلسطين هي ثمانون سنة، أربعون سنة تشمل جيل التجديد، وأربعون سنة تشمل جيل التكاثر وهو جيل التمكين والعلو، ومن ثم بعد ذلك سيكون الخراب والدمار (والله أعلم).
- المعاني التحليلية: يمكن استخراج مجموعة من النقاط في المعاني اللفظية للآيات الكريمة وفقًا لسياقها اللفظي ومساقها الاستدلالي، نبينها على النحو التالي:
- وجود بني إسرائيل في دولة وعلوهم على الأمم، يرتبط على العموم، بظهورهم واستقرارهم ومن ثم فسادهم العظيم وعلو مكانتهم، وفي المرة الأولى حُدد ظهورهم بالاستقرار والفساد والعلو الكبير، أما ظهورهم الثاني فسيصاحب استقرارهم وفسادهم وعلوهم سيطرتهم على الأموال، والغلبة على كل من حولهم بالجمع والأنصار، وفيه من البيان ما يمثل إعجازًا قرآنيًا أوضح منذ ما يزيد عن ألف وأربعمائة عام على أن العلو والسيطرة الحقيقية التي تحدث اليوم هي سيطرة مالية ويتبعها هيمنة اقتصادية، وهي ليست كما كانت في السابق سيطرة عسكرية سلطوية، وأيضًا تتجلى قوة الهيمنة في القدرة على حشد الأنصار والأتباع سلمًا وحربًا، وفي ذلك تتجلى قدرة بني إسرائيل اليوم في امتلاك الأموال وفي سيطرتهم على الآلة الإعلامية الضخمة التي باتت الموجه الفعال للقضايا والرأي العام العالمي.
- تبرأ الله تعالى من الذين دخلوا المسجد في المرة الأولى بأن أوردهم في النص بعبودية العموم ﴿عِبَاداً لّنَا﴾، وهي عبودية استملاك الله تعالى لكل خلقه من حياة أو جماد، ولم يرد ذكرهم بعبودية الخصوص (عبادي، عباد الرحمن، عباد الله) والتي تمثل عبودية استنساب لله تعالى وإيمان به، وفي الآيات تثبيت لهم على نفس الصفة (عبودية العموم) في الدخول الثاني، إذ لم يرد في النص القرآني أي تحويل أو تعديل، أو إضافة، أو تخصيص حالة جديدة، أو استثناء يبين أي تغير في حالهم.
- حددت الآيات الكريمة بشكل جلي وواضح، لا لبس فيه ولا تأويل، أن هناك طرفين للصراع في المرتين، الأولى والأخرى(الثانية)، فالطرف الأول هم بنو إسرائيل، بينما الطرف الثاني هم القوم أولي البأس الشديد الذين دخلوا المسجد في المرة الأولى وهم البابليين، (العراق وأجزاء من إيران وسوريا)، وتبين الآيات في تأكيد صريح، وتحديد دقيق بأنهم أيضًا هم من سيدخلونه في المرة الثانية.
- عقوبة الله تعالى على بني إسرائيل في المرتين الأولى والأُخرى تصور أحداثًا فيها من القسوة والتدمير تبين أن المسلطين عليهم هم من جنس أشد عصيانًا لله وأشد انحرافًا، لأن الله تعالى يعاقب العصاة من عباده بعصاة مثلهم، وفي مثل هذا المعنى قال الله تعالى: “وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ” سورة الأنعام الآية 129، وقال تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا” سورة مريم الآية 83، وقال تعالى: “لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ” سورة الأنفال الآية 37، ومن المعلوم قطعًا أن الله تعالى يرسل عباده المؤمنين على غيرهم رحمةً وهدايةً، لا مدمرين ولا متجبرين، كما أن فعل التدمير الذي سيحدثونه في فلسطين يتعارض مع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء الجيش في الحروب؛ كما أنه من غير المنطقي أن يقوم الفلسطينيون بتدمير البيوت والمؤسسات والمنشآت التي سيخلفها اليهود وراءهم، فالعقل والمنطق يقولان بأنها ستكون غنيمةً لهم وسيستفيدون منها، وهذا يؤكد لنا بأن من سيدخلون فلسطين باسم تحريرها لديهم مهمة محددة من (س ع م) للقيام بعملية التدمير والتخريب في فلسطين.
- في الآيات بيان عجيب يفيد ترابط الأحداث والأقوام والمكان، حيث إنها ابتدأت بتصوير أحداث الدخول الأول أقوامًا وأفعالًا، ولم تحدد المكان الذي تمت فيه الأحداث، ولكنها أوردته تحديدًا في أحداث الدخول الثاني: “وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ”، وهنا توضيح بأن المسجد الأقصى كان موجودًا في الدخول الأول الذي حدث بعد وجود النبي سليمان عليه السلام، مما يفند مزاعم بني إسرائيل بأن المسجد الأقصى بني على انقاض هيكلهم المزعوم، وعمومًا، يوجد في الآيات الكريمة ترابط وتكامل لمسار الأحداث في النص والمضمون، ففيها تشابه، وارتباط وثيق في المعنى والمدلول، فقد بينت أن الأحداث هي نفسها في المرتين، فاعلين ومفعولين، مكانًا وأوضاعًا، باستثناء فارق الزمن.
- أشارت الآيات الكريمة في الخطاب إلى بني إسرائيل بأنهم سيُرحمون من الله تعالى في إشارة ضمنية إلى أن دخول القوم أولي البأس الشديد في المرة الثانية، إنما هو إجلاء لبني إسرائيل من المسجد وتدمير لبيوتهم وخراب لحضارتهم، وفي نهاية الآية إشارة إلى أن هناك محاولة للعودة للمرة الثالثة: “وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا” إلى المسجد لكنها ستكون الأخيرة إذ إن بعدها ذكر الله تعالى جهنم وهي المطاف النهائي لكل كافر في الدار الآخرة.
ثانياً: الفاعِلون المسلطون على بني إسرائيل على الصعيد الديني والتاريخي:
1- الفاعِلون المسلطون على بني إسرائيل في النص القرآني:
بينا في التحليل السابق كيف أن الوقائع المحددة في القرآن الكريم كانت واضحةً جلية في أن القوم الذين سيكونون في مواجهة بني إسرائيل في المرتين محددين في لفظٍ جاء بصيغة عبودية العموم (عبادًا لنا).
وقد أشار الشيخ بسام جرار إلى أن ما جاء في الحديث الشريف يمكن أن نعتبره تأكيدًا لما ذكرناه، فقد وردت عبارة (عبادًا لي) إشارة إلى خروج يأجوج ومأجوج، بينما ذكرت عبادي إشارة إلى المؤمنين الذين مع سيدنا المسيح عليه السلام: فَبيْنَما هو كَذلكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إلى عِيسَى: إنِّي قدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لا يَدَانِ لأَحَدٍ بقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إلى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ.
وردت بعد عبارة (عِبَاداً لّنَا) في الآية الكريمة، عبارة (أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)، وبالبحث في القرآن الكريم لتحديد مضمون المعنى للعبارة وجدناها ذكرت في تحديد قوم من الناس في أربعة مواضع، الأول: (الآيات الكريمة قيد التحليل)، والثاني: “قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ” سورة النمل الآية33، والثالث: “قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ۖ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ۖ وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا” سورة الفتح الآية 16، والرابع: “لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ” سورة الحشر الآية 14، وفي الأربعة المواضع، كانت الآيات الكريمة تتحدث في سياقها عن أقوامٍ كافرين.
وقد ذُكر البأس الشديد أيضًا في ثلاثة مواضع أخرى، الأول: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ” سورة الحديد الآية 25، والثاني: “قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا” سورة الكهف الآية 2، والثالث جاء الذكر بصيغة أخرى: “فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا” سورة النساء الآية 84، والآيات في هذه المواضع أشارت كلها إلى جانب يتضمن العقاب، ففي الأولى، أشارت إلى ضرر الحديد وفتكه وشدته ويؤكد ذلك أن جاء بعدها عبارة منافع للناس، وفي المعنيين الآخرين جاء البأس الشديد بمعنى عقاب الله تعالى وبمعنى العذاب، وهنا تدليل بأن العبارة “بأسًا شديدًا” إنما ذكرت في الأقوام الكافرين، وتدل أيضًا من سياق وجودها في القرآن الكريم بشكل آخر على العقاب والعذاب.
ومن خلال سياق الآيات الكريمة نجد أن الله تعالى إنما ساق العقاب والعذاب لبني إسرائيل نتيجة فسادهم وعلوهم الذي أشارت الآيات إليه عمومًا في المرتين: “وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً”، هذا العقاب سيكون على أيدي عبادٍ من عباده غير المؤمنين في المرة الأولى، وقد أشار بصراحة وبوضوح تام على أنهم هم من سيدخلون المسجد في المرة الثانية، فكل الضمير في الآيات التي جاءت لما بعد الدخول الأول يدل على ذلك: “رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ، لِيَسُوءُوا”، بل وقد جاء الدخول الثاني في الآيات الكريمة مؤكدًا وقاطعًا لأي شك حول ذلك “وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ”، وهنا نستوثق أمرًا مهمًا في مسألة العبودية لله تعالى “عبادًا لنا” فبتحليل الآيات نجد أنه لم يتخللها ما يفيد تبدل حال من سيدخلون المرة الثانية لذا؛ فإن تعميم حُكم ومنزلة خطاب العموم يظل عليهم قائمًا “عبادًا لنا” كحال من دخلوا في المرة الأولى.
2- الفاعلون المسلطون على بني إسرائيل في السيرة الإسلامية:
كما ذكرنا عند التعرض للنص القرآني أن عبارة (أولي البأس الشديد) ذُكرت بشكلها الخاص (للأقوام) أربع مرات، أحدها معرفة ومحددة للقوم المقصودين بها، حيث كانت لقوم سبأ من اليمن: “قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ” سورة النمل الآية 33، والأخرى لم تكن معرفة، أي أنها لم تحدد الأقوام صراحة، وبالنظر إلى أن اليمنيين أسلموا في عهد رسول الله تعالى دون حرب، فأولي البأس الشديد المتبقية لم تكن بالتأكيد لهم.. وفي إحداها إشارة واضحة إلى أن المنافقين سيدعون لقتال أولي بأسٍ شديد، لاختبار إيمانهم: “قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلىٰ قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ تُقَٰتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ۖ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ ٱللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ۖ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا” سورة الفتح الآية 16.
وبالنظر إلى الآية التي أوضحت أن المنافقون لن يقاتلوا مع رسول الله وهو حي: “فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إلىٰ طَآئِفَةٍۢ مِّنْهُمْ فَٱسْتَـْٔذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِي عَدُوًّا ۖ إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَٰلِفِينَ” سورة التوبة الآية 83، فإن المفسرون قالوا أن الدعوة التي ستوجه للمنافقين لقتال أولي البأس الشديد ستكون بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك ننحو إلى أنهم أهل فارس وفق تفسير ابن عباس وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وابن أبي ليلى، وعطاء الخراساني لعبارة أولي بأس شديد عند تفسيرهم لقوله تعالى: “قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَاب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْم أُولِي بَأْس شَدِيد” سورة الفتح الآية 16.
ومن المعلوم أنه يُقصد بأهل فارس من كانوا يحكمون أراضي فارس وتقع فيها أجزاء واسعة من العراق؛ أما قضية دخول نبوخذ نصر إلى بيت المقدس الذي تم اعتباره الدخول الثاني إلى بيت المقدس في السيرة الإسلامية فمن المرجح أن المفسرين اعتبروا غزو سنحاريب (أحد الملوك الآشوريين) إلى بيت المقدس هو الدخول الأول، ونحن هنا نفند ذلك فقد أكدت كل النصوص التاريخية عدم دخول الملك (سنحاريب) بيت المقدس، وإنما تحدثت عن حصاره لبيت المقدس فقط ورجوعه دون الدخول إليه.
وفي حديث بشر، في تفسير قوله تعالى: “إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ” إنما هي آخر العقوبتين: ” لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ” كما دخله عدوهم قبل ذلك: “وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا” فبعث الله عليهم في الآخرة بختنصر المجوسي البابلي أبغض خلق الله إليه، فسبا وقتل وخرّب بيت المقدس، وسامهم سوء العذاب.. وفي حديث آخر جاء فيه: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: “فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ” من المرتين، “لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ” قال: ليقبحوا وجوهكم، “وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا” قال: يدمِّروا ما علوا تدميرا، وقال: هو بختنصر، بعثه الله عليهم في المرة الآخرة.. وفي حديث آخر منقول عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: فلما أفسدوا بعث الله عليهم في المرّة الآخرة بختنصر، فتبر في الأرض ما علا تتبيرا.
3- الفاعلون المسلطون على بني إسرائيل في السيرة اليهودية:
تطرقت أكثر نصوص كتب العهد القديم (التوراة) إلى أن تخريب دولة اليهود الأولى كان على يد الملك نبوخذ نصر، وجاء في (أرمياء 25 : 8-11)، أن الله تعالى عاقب بني إسرائيل لأنهم عصوه، بأن أرسل الله تعالى عليهم نبوخذ نصر الذي اجتاح أرضهم ودمر مُلكهم ومملكتهم وأهلكهم واستعبدهم سبعين عامًا.
كما أشارت كتب بني إسرائيل (أشعياء 14: 2) إلى أن لليهود عودة إلى فلسطين وأن شعوب الأرض بعد أن تنصرهم وتمد لهم يد العون ستكون عبيداً لهم وأن بني إسرائيل سيتسلطون على من أسمتهم توراتهم بآسريهم وظالميهم.
وفي (أشعياء 61: 4-6) ورد أنه سيتم خدمة بني إسرائيل من قبل الغرباء والأجانب وأنهم سيصبحون عظماء بثروات الأمم.
وبعد ذلك وردت إشارة واضحة بخراب دولة بني اسرائيل للمرة الثانية، ففي (أشعياء 14: 29-30) بأن هناك عودة لذُرية من دخلوا إلى فلسطين في المرة الأولى، تلك الذُرية تكون ثعبانًا سامًا طيارًا (على ما يبدو أنها إشارة إلى استخدام صواريخ اليوم) وسيتم الدخول إلى فلسطين للمرة الثانية من نفس جهة الدخول التي كانت في المرة الأولى.
وعلى الرغم من التحريف الكبير والماجن الذي نال كتب اليهود المقدسة إلا أنه ظلت فيها إشارة واضحة وعجيبة حيث أنه تبين بشكل جلي ما كان لدولة اليهود وما سيكون لها في المرتين اللتين ستُفسد فيهما وكيف عقابها من الله تعالى بعد كل مرة ففي(ﺣﺰﻗﻴﺎﻝ 23) ورد نص توراتي يتحدث بشكل مجازي عن أختين (دولتين) ماجنتين، الأخت الأولى(الدولة الأولى): بعد أن أفسدت سلمت نفسها للآشوريين (فَفَضَحُوا عَوْرَتَهَا، وَأَسَرُوا أَبْنَاءَهَا وَبَنَاتِهَا، وَذَبَحُوهَا بِالسَّيْفِ) ويتحدث النص أيضًا عن أن الأخت الثانية(الدولة الثانية): من أنها شاهدت فجور أختها ومصيرها المشؤوم إلا أنها سلكت نفس مسلك أختها؛ بل وكانت أكثر فجورًا، حيث تحالفت مع الآشوريين(العراق) واغترت بعمائمهم، فإن الرب سيعاقبها بأن يسلطهم عليها، وسيكون عقابها بأنها ستلاقي مصيرًا مثل مصير أختها.
ويوضح (حزقيال21: ،6) مقدار الرعب الذي سيصيب اليهود عند زحف ملك بابل نحوهم، إذ ورد فيه أن قلوبهم ستنكسر حزنًا ورعبًا، وتصبح ركبهم مثل الماء خوفًا من أخبار الزحف إلى دولتهم؛ وأكد (حزقيال21: 19) بأن خراب دولة اليهود في المرة الأولى والثانية يكون من بابل، وأشار (حزقيال21: 28-32) بأن من سيدخل إلى فلسطين في ساعة العقاب النهائي هم رجال أفظاظ متمرسون في التدمير.
وفي (أشعياء10 : 28- 32) نبوءة عن قدوم جيش آشور نحو دولة اليهود ووصوله إلى فلسطين، واجتيازه لقرى ومدن في فلسطين (عياث وبمجرون) وأنه سيضع مؤنته (أي سيريح جيشه) في قرى أخرى(مخماش)، ثم يزحف مع خوف ورعب لليهود في مدن فلسطينية أخرى (الرامة “جنين”) وهروب أهل مدن أخرى وفرار سكانها (جبعة شاؤل وجييم ومدمنه)، ومن ثم سيدخل إلى أورشليم(القدس الشريف).
وفي(أشعياء34:10) نبوءة لسقوط لبنان أمام جبار مهوُب (34 تُسْتَأْصَلُ أَجَمَاتُ الْغابَةِ بِفَأْسٍ، وَيَسْقُطُ لُبْنَانُ أَمَامَ جَبَّارٍ مَهُوبٍ)؛ وكلمة مهوُب تمثل اسم مفعول مشتق من حروف الفعل المنصرف المبني للمجهول الذي يوضح من وقع الفعل عليه من قِبل غيره، مثل اسم المفعول (مضروب، مَبْعوث…) أي أن كلمة مهوب تدل على من صنعت له الهيبة من قبل غيره.. ولو كان المراد من صنع لنفسه الهيبة بأفعاله وأعماله فكانت الكلمة في هذا النص سترد بكلمة مهيوب بدلًا عن مهوُب لتكون أكثر دقة، إذ أن كلمة مهيوب تمثل اسم فاعل مشتق من الفعل المبني للمعلوم الذي يدل على من قام بالفعل أو من وقع منه الفعل، وهو ما يدل على الفعل والفاعل معًا.. وبهذا قد يكون تفسير ما ورد، بأن سقوط لبنان سلطةً ودولة سيكون في أيدي جبار صُنعت له الهيبة من قبل غيره، ولم تصنعها له أفعاله وأعماله.
وفي (أشعياء 22: 1-14) «نُبُوءَةٌ بِشَأْنِ أُورُشَلِيمَ» إشارة واضحة لخراب إسرائيل ودمار منازلها على يد من أسمتهم عيلام (إيران) “6 إِذْ إنَّ عِيلامَ قَدْ حَمَلَتِ السِّهَامَ وَاجْتَمَعَتْ بِمَرْكَبَاتٍ وَفُرْسَانٍ، وَقِيرَ جَرَّدَتِ الدُّرُوعَ، 7 فَاكْتَظَّتْ خَيْرُ أَوْدِيَتِكِ بِالْمَرْكَبَاتِ، وَاصْطَفَّ الْفُرْسَانُ عِنْدَ الْبَوَّابَاتِ” وهنا إشارة واضحة إلى اشتراك عيلام وقير في غزو ودمار دولة اليهود، وهما اليوم (عيلام وقير) يقعان في أقصى الغرب والجنوب الغربي من إيران.
كما أوضحت ذات النبوءة، أن قتلى أورشليم ليسوا قتلى سيف أو صرعى حرب؛ بل بسبب هروب قادتها، أو أسرهم دون مقاومة، وأشارت إلى أنه في ذلك اليوم سينتقب أهل أورشليم جدرانها (قد تكون إشارة إلى قيام اليهود بتخريب ما يحصنهم من الأعداء وأعتقد أنهم سيقومون بتدمير مصادر قوتهم مثل الصواريخ والدبابات والمدافع ومفاعل ديمونة في صحراء النقب حتى لا يتم نهبها) وسيهرب الباقون إلى الجبال، وسيتم سبي كل من يُعثر عليه؛ (فِي ذَلِكَ الْيَومِ يُقْتَلَعُ الْوَتَدُ الْمُتَرَسِّخُ بِإِحْكَامٍ مِنْ مَوْضِعِهِ الأَمِينِ وَيُسْتأْصَلُ وَيُطْرَحُ عَلَى الأرْضِ وَيَبِيدُ مَعَهُ كُلُّ الَّذِينَ اتَّكَلُوا عَلَيْهِ (أشعياء 22: 25).
وهناك أكثر من إشارة إلى دمار دولة اليهود في أكثر من موضع ففي (أرمياء4 : 5-31) أوضح أن اليهود سيحتشدون للهروب إلى الحصون لأن الشر سيأتي بالخراب والدمار قادمًا من الشمال (إشارة إلى اتجاه العراق وإيران)، وفي ذلك اليوم سيدب الرعب والخوف على ملك إسرائيل وكهنته ورجال دولته وسيعم الخراب دولة بني إسرائيل، إلا أنه لن يتم إفناؤهم.. وعلى ما يبدو أنها ستكون حربًا جوية طاحنة بين إيران وإسرائيل، ستسحق فيها إيران إسرائيل بآلاف الصواريخ في وقت لا يسمح للدول الداعمة لإسرائيل بإيقاف ذلك، وأعتقد أنه بعد أن تقوم إيران بسحق إسرائيل، سيتم تدمير إيران بغرض التمهيد لتعميم نموذج التشيع الطائفي(العراقي) بدلًا من نموذج التشيع السياسي(إيران) الذي أثبتت الأحداث أنه أكثر عقلانيةً واتزانًا وانتظامًا، وفي (أرمياء 49: 34- 39) نبوءة تتحدث أن الله تعالى سيحطم قوس عيلام (إيران) (قد تكون إشارة لصواريخ اليوم) والتي هي عماد قوتها، وسيتم سبي أهلها من كل الأمم وسيتم القضاء على عظمائهم، وتم الإشارة أيضًا إلى أنه في وقت لاحق سيعود العيلاميون إلى أرضهم.
وفي (صفنيا 1: 4- 13) يوجد وعيد شديد ضد سكان أورشليم وفيه إخبار عن عقاب يمحق كل نعيمهم ويجعل ثرواتهم غنيمة، فَتُصْبِحُ ثَرْوَتُهُمْ غَنِيمَةً، وَبُيُوتُهُمْ خَرَاباً، يُشَيِّدُونَ بُيُوتاً وَلا يَسْكُنُونَ فِيهَا، وَيَغْرِسُونَ كُرُوماً وَلا يَشْرَبُونَ مِنْ خَمْرِهَا).
وقد ذُكر في (مراثي إرمياء 4: 1- 22) أن كل الأحداث التي ستجري على بني إسرائيل ستفقدهم نضارتهم وستتلف سحناتهم البهية وأنها ستجري وسط ذهول وعدم تصديق من ملوك الأمم، لَمْ يُصَدِّقْ مُلُوكُ الأَرْضِ وَسُكَّانُ الْمَعْمُورَةِ أَنَّ الْعَدُوَّ وَالْخَصْمَ يَقْتَحِمَانِ بَوَّابَاتِ أُورُشَلِيمَ) وأن الأحداث ستكون في سرعة خاطفة أيضًا؛ كَانَ مُطَارِدُونَا أَسْرَعَ مِنْ نُسُورِ السَّمَاءِ، تَعَقَّبُونَا عَلَى الْجِبَالِ، وَتَرَبَّصُوا بِنَا فِي الصَّحْرَاءِ)، وقد أشار(ميخا 6: 14- 16) إلى أن الأحداث ستكون سريعة جدًا بحيث أنها لن تُمكن بني إسرائيل من أن يتنعموا بنتاج النعم التي عملوها وأنهم سيقاسون من احتقار الأمم لهم.
وقد ورد في (أشعياء 5: 24-30) تشبيه بليغ لسرعة الأحداث حيث شبهها باحتراق القش وذكر أن من سيسلطون على اليهود لن ينعسوا أو يناموا في إشارة واضحة لتتابع الأحداث وعدم انقطاعها وسرعتها.
أما إرهاصات ذلك فقد حددته نبوءة (حزقيال، 38: 1- 23) التي تتحدث عن اتحاد مجموعة من الدول ذات يوم قادم ضد إسرائيل، وبعد القيام ببحث عميق عن الأسماء الموجودة في النبوءة المذكورة نوردها على النحو التالي: روش (روسيا) وماشك وتوبال (بلاد تقع كلها اليوم في جمهورية تركيا)، وبلاد جومر حددت في منطقتين: تركيا حاليا، بينما حددها القاموس الإسباني بأنها تعني بلاد الأمازيغ(الجزائر حاليا)، وكوش( السودان حاليا)، وفوط (ليبيا، أو دول المغرب العربي)، وبلاد فارس(إيران)، وجوج وماجوج (أعتقد أنها الصين) قد ذكرت هذه النبوءة أن أهل شيبا (اليمن) ورودوس (جزيرة في اليونان)، وأهل ترشيش (طرسوس مدينة في تركيا على البحر الأبيض المتوسط) سيسألون الجيوش القادمة عن سبب مجيئهم وهل هو لِلاِسْتِيلاءِ عَلَى الأَسْلابِ؟ هَلْ حَشَدْتَ جُيُوشَكَ لِنَهْبِ الْغَنَائِمِ وَلِحَمْلِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَأَخْذِ الْمَاشِيَةِ وَالْمُقْتَنَيَاتِ وَلِلسَّلْبِ الْعَظِيمِ؟”.
وهذا يعني أمرًا واحدًا هو: أن تَوحُّدًا ما سيحدث في مسألة تحرير فلسطين وسيكون غزو الجيوش التي ستدخل فلسطين من جهتي الجنوب والشمال، وسيكون بتزامن واحد بحيث يربك إسرائيل ويرعبها في آن واحد.
وهناك نبوءة حول الأحداث حيث ورد فيها أن من في الجزيرة العربية سيتقبلون الهاربين من أرض إسرائيل وسيسقونهم ويطعمونهم، والمذكورون في النبوءة هم أهل تيما (الأرض المذكورة تقع حاليا في السعودية) وأهل ددان من أهل التجارة (وهي أرض يقصد بها اليوم القاطنين في شرق وسط الجزيرة العربية).
٤ – الفاعلون المسلطون على بني إسرائيل في السيرة المسيحية:
نجد أن كتب العهد الحديث (الإنجيل) (متى24: 1-22)، (مرقس13: 1-20)، (لوقا 19: 41-44)، (لوقا 21: 10-24) تذكر مجموعة من العلامات لدنو أجل دولة اليهود، فقد أشارت أنه عندما تحدث الحروب، وانقلاب أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتحدث الزلازل في عدة أماكن في العالم، وتحدث المجاعات، فإن أول أحداث تصيب اليهود هي اضطهادهم وتقديمهم إلى المحاكم والمجامع، وسوف يُضربون ويمثلون أمام حكام وملوك (هكذا جاءت نكرة وغير معرفة) إشارة لامتثال اليهود أمام بعض حكام وملوك العالم.. وتشير النبوءة في الكتب الثلاثة إلى وقوع خراب شديد في أورشليم (بأيدي أعدائها، هكذا في لوقا 19) ولن يترك فيها حجر على حجر إلا ويهدم، وسوف تقوم الأمم بتسليم اليهود إلى العذاب ويتم قتلهم وسوف يكونون مكروهين من جميع الأمم، كما سيقوم اليهود بتسليم بعضهم البعض إلى الموت (الأخ يسلم أخاه، والوالد يسلم ابنه، وينقلب الأولاد على والديهم فيقتلونهم.. هكذا وردت في مَّتى ومُرقس) وفي (لوقا21: 16) “وَسَوْفَ يُسَلِّمُكُمْ حَتَّى الْوَالِدُونَ وَالإِخْوَةُ وَالأَقْرِبَاءُ وَالأَصْدِقَاءُ، وَيَقْتُلُونَ بَعْضاً مِنْكُمْ”، وأيضا أشارت النصوص في لوقا إلى أن اليهود سيبغضون بعضهم البعض؛ وقد حددت النبوءة أن أهم أمارة لدنو أجل دولة اليهود ظهور رجاسة الخراب فقد وردت في(مَّتى 24: 15) عندما تُرى رجاسة الخراب التي قيل عنها بلسان دانيال النبي في المكان المقدس، ووردت في (مُرقس 13: 14) عندما ترى رجاسة الخراب قائمة حيث لا ينبغي.
وبمراجعة نبوءة دانيال حول هذه العبارة (رجاسة الخراب) وجدناها وردت بصيغ مختلفة الأولى: الأرجاس مخرب (دانيال 9: 27) الرجس المخِّرب (دانيال 11: 31)، رجس المخرب (دانيال12: 11)، والأصل العبري لكلمة “رجسة” هي “شاكاس” بمعنى “بغيض” أو “مكروه”، وقد ذكرت العبارة في (دانيال 8 : 13) بصياغة توضح المعنى والمدلول بشكل واضح وذلك في عبارة “معصية الخراب”، وبذلك يتضح أن مدلول كل الصيغ السابقة تُعبِّر عن الانحراف عن التعاليم والسنن الإلهية لأن ذلك “الرجس الذي يولد الخراب”؛ فعندما ينتشر الفسق والفساد وعندما يتم ترك الأخلاق والفطرة السليمة؛ فذلك هو المؤذن بنزول العقاب الإلهي الذي سيترك كل شيء وراءه خرابًا كما حدث لقوم لوط وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وغيرهم.
وهذه النبوءة إذا ما أُخذت بتجميع ما ورد في مَّتى مع ما ورد في مُرقس مع الاسترشاد بما ورد في دانيال فإن المدلول يشير بوضوح إلى أن أمارة دنو أجل دولة اليهود ستكون عندما يتم ارتكاب المنكرات العظيمة التي تغضب الله تعالى وتوجب نقمته وعقابه وتدميره في الأماكن التي لا ينبغي أن تكون فيها (الأراضي المقدسة، المسجد، الكنيسة، الدير).. كما أشارت هذه النبوءة أنه عندما يعم الخراب المكان المقدس فإن على كل من في فلسطين (من اليهود) الهروب من أماكنهم في أسرع وقت، لا يلوون على شيء وبلا إبطاء، فمن كان في أماكن العبادة يهرب إلى الجبال، ومن كان على سطح منزله فليترك متاعه ويهرب مسرعا، ومن كان في الحقل فلا يرجع ليأخذ ثوبه، وفي النبوءة تهويل شديد للأحداث، فقد أوردت (الويل للحبالى والمرضعات)، وأن يدعو (اليهود) بأن لا يكون هروبهم في شتاء، أو في سبت، وفي النبوءة أن كل تلك الأحداث ستكون في أيام معدودة تنتهي بهم أسرى لدى جميع الأمم أو مشتتين من جديد في كل أرجاء الأرض (لعلها إشارة إلى تشتتهم مرة أخرى كلاجئين منبوذين ومكروهين ومنعزلين في “غيتو” (Ghetto)”.