الفجر المظلم ” الحلقة الأولى”

استراتيجيات السلطة العالمية العميقة (س ع م)
أ.د/ خالد أحمد القيداني

تمهيد: مُؤخرًا، أثبتت الأحداث على المسرح الدولي أن السلطة العالمية العميقة (س ع م) قد أحكمت سيطرتها على أغلب دول العالم؛ وعلى وجه الخصوص دول العالم المتقدم؛ فمن غير المعقول أن تتدخل دولٌ عظمى في حربٍ تؤدي إلى تقويض سبب ازدهارها ونمائها وتقدمها كما يحدث حاليًا في الحرب الروسية الأوكرانية، كمسرح لأحداث عالمية شديدة الخطورة، نشاهد فيه حربًا يكتنف أهداف أوروبا حولها غموض شديد، ويعتري مؤشراتها السياسية والاقتصادية تخبطٌ عالمي، بسبب سير إجراءات الصراع واتجاهاته، وأهدافه.. كل الأحداث المشتعلة اليوم في أوروبا لا تصب في مصلحة أيٍ من الدول المتصارعة، جميعها بلا استثناء، إلا مكون (س ع م) فهو الوحيد الذي يستفيد بشكل كبير من هذا الصراع، لذا نجد أنه يعمل على تغذيته بقوة.. وعلى الرغم من المخاطر العالية التي قد يجلبها هذا الصراع على منطقة أوروبا؛ بل وعلى صعيد العالم أجمع، إلا أن (س ع م) تسير بالصراع نحو مزيدٍ من الاتساع، بل وتُحفز بقوة وإصرار كل العوامل التي تجره نحو زيادة حدته، والتوغل في كل ما من شأنه أن يعمق مسبباته، فتضع أمام قيادات الدول الأوروبية المتصارعة خيارًا حتميًا وحيدًا مضمونه استمرار المواجهة مع روسيا، بل وتصعيدها على كل الأصعدة.
يوماً بعد آخر، تتضح استراتيجية (س ع م) في السيطرة على كل الدول سياسيًا واقتصاديًا، فبسلطتها شبه المطلقة على الإعلام والاقتصاد العالمي تقوم بدفع أتباعها المخلصين إلى مصادر السلطة والنفوذ في دولهم.. إذ إنه لا تفسير مقنع يستوعب الخنوع والخضوع غير المنطقي لدى القادة السياسيين الأوروبيين تجاه مسارات الصراع المدمر في المنطقة الأوروبية، والذي لا يخدم بلدانهم على المدى القريب ولا البعيد، إلا إذا رجحنا أنهم يقبلون بالمضي قُدمًا في جحيم الأحداث كونهم (القادة الأوروبيين) ينتمون تنظيميًا لـ (س ع م) وينفذون توجيهاتها وتعاليمها.. وفي ظل قدرة منظومة (س ع م) الإعلامية الهائلة على تغييب الشعوب الأوروبية عن الأحداث ومجرياتها الحقيقية، نجد أن كل الشعوب في أوروبا وأوكرانيا تمر في حالة من الصدمة، التي يصاحبها ذهول شديد وتبلد، فعلى الرغم من أنهم يشاهدون انحدار رفاهية ونماء واستقرار بلدانهم إلى مستويات متدنية بسبب الحرب، ويشعرون فعليًا بنتائجها في الجانب المعيشي لهم، دون أن يستطيعوا فعل شيء أو حتى البوح بالاعتراض مجتمعيًا أو حتى إعلاميًا.
وضع التحكم والسيطرة والاستغلال الذي تمارسه السلطة العالمية العميقة على الدول بشكل عام، نستطيع أن نطلق عليه مسمى (أفيوسيبس) (Ophioceps) كمصطلح مزدوج يمزج بين ما يفعله الأفيون Opium)) في الشعوب، التي تكون في حكم المخدرة انتشاءً وإدمانًا وسلوكًا وبين ما يعمله فطر أوفيوكورديسبس أونيلاترالس (Ophiocrdyceps unilateralis) في السلطة السياسية التي أصبحت في حكم المسيّرة كسلطة مسلوبة القرار والإرادة.. في ذلك، وعلى وجه الخصوص، نجد أن غالبية الدول الأوروبية باتت اليوم في حكم الحالة (أفيوسيبس) (Ophioceps) تحت سيطرة (س ع م)، تُمسك بمفاصل السلطة فيها وتتحكم بمكامن ومصادر قرارها، وتجعلها تتحرك وكأنها دمى مسلوبة الإرادة، فنشاهد قياداتها السياسية تُغيّب مصالح شعوبها مجبرة، وتتخلى عن مصالح أوطانها الاستراتيجية لتحقيق أهدافٍ خفية لـ(س ع م) قد تكون بالنسبة لها غير واضحة المعالم والغايات.
أولاً: الاستراتيجيات العامة التي تطبقها (س ع م) للسيطرة على العالم:
بتتبع الأحداث إبّان موجة توحش الإمبريالية العالمية، والطمع الرأسمالي في القرنين الماضيين، أثناء محاولة السيطرة على العالم وفق مبدأ الاحتلال المباشر لبعض الدول ذات الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية، نجد أن مقاومة الشعوب الشرسة للاحتلال قد أعطى درسًا لكل الدول التي انتهجت الاستعمار المباشر، وأوضح لها التكلفة الباهظة التي ترتبت عليه من جهة، ومن جهة أخرى قلة جدواه وتأثيره وديمومته.
في كل الأحوال، وعلى الدوام، تعرف (س ع م) بالتجربة والممارسة أن أفضل استراتيجية يتم تنفيذها لامتصاص وسلب ونهب خيرات الدول هو مبدأ التفتيت.. وعلى العموم، كل من يطبق نهجاً ثابتًا، مسارًا وغايةً وهدفًا يتضمن تمزيق المجتمعات وتجزئتها في كيانات متناحرة متصارعة ومتنازعة؛ فإنه يستطيع استحلاب خيراتها ومواردها ومقدراتها بأيدي أبنائها، ويستطيع أيضًا أن يستغل إمكاناتها البشرية والمادية بدون بذل أي جهد أو استخدام قوة تذكر، ودون أن يتحمل أي أعباء والتزامات اقتصادية، أو سياسية أو حتى أخلاقية.
في عالم اليوم، تسعى(س ع م) بكل ما تملكه من نفوذ إلى تفتيت كل دول العالم التي توجد لها فيها مصلحة، فتقوم بوضع الأزمات والمشاكل المستدامة في هياكلها، وبنيتها سلطةً، ودولةً، وشعباً، وإعادة تشكيلها بما يكفل زعزعة استقرارها على الدوام، خدمةً لمخططاتها وأهدافها، فبعد أن أثبتت التجارب أن الدول المستقرة مهما صغرت، لا بد لها من توجيه مواردها وخيراتها، أو على الأقل جزء منها، في خدمة مجتمعاتها من صحة وتعليم وبنية تحتية وغير ذلك، فإن (س ع م) على ما يبدو، اعتبرت ذلك تبديدًا لثروة كان من المفترض أن تكون في جعبتها وفي خزينتها، ذاك هو التوحش الإمبريالي الجشع لـ(س ع م) بوجهه الحديث الذي أطل على العالم.
الأحداث الساخنة على مستوى العالم توضح أن أي محاولة بناء إمبراطورية عالمية قد تواجه (س ع م)، أو تنافسها على قيادة العالم، هي من كبائر المحرمات التي لن تسمح بها، حتى وإن تطلب الأمر إحراق العالم وفناءه. ومن هنا، ندرك سبب العداء المستحكم بين (س ع م) والإسلام الذي غايته وهدفه الأساسي تكوين أمة إسلامية واحدة متماسكة ومترابطة، ويبين لنا سبب وضع المعوقات والعراقيل التي تمنع تكوّن دولة الأمة الإسلامية، ويفسر لنا أيضًا لماذا يتم وضع العراقيل التي تمنع تكوين الدولة العربية كدولة قومية.. نعايش اليوم، الجهود الخبيثة التي تبذلها (س ع م) لتنفيذ توجهاتها التآمرية الهادفة إلى تفتيت الدول العربية، التي قد جزأتها سابقًا إلى دول قُطرية، وذلك عبر محاولة تفتيتها إلى كيانات أصغر تحت أي مسميات مستحدثة (إقطاعيات، إمارات، مشيخات، سلطنات.. أقاليم…إلخ) ليسهل جعلها جزئيات متناحرة ومتنافسة.. مسعاها هذا، هو نفس وذات المخطط الاستراتيجي الذي تحاول تنفيذه بحذافيره على مستوى العالم أجمع.
لكي تحقق (س ع م) استراتيجية التفتيت التجزيئية للدول، فإنها تنتهج مجموعة من الطرق والوسائل والآليات التي تمكنها أولاً من تحقيق سيطرة دائمة وناعمة، وبتكلفة أقل-إن لم تكن منعدمة التكلفة- من الاستعمار أو التدخل المباشر، وبعد أن تتأكد من أنها قد حققت السيطرة الملائمة تقوم باستكمال عملية التفتيت، متى ما تقتضيه مصالحها.. تلك الطرق والوسائل لها نوعان، الأولى: طرق تقليدية دأبت على استخدامها دومًا، والثانية: طرق حديثة طورتها لتنسجم مع متطلبات الحداثة والتطور في النظم السياسية الدولية، ونوضحهما على النحو التالي:
1-الطرق التقليدية: (الفجر في ساحة الظلم الماكر، تغرب فيه مؤامرة وتشرق أخرى).
باستقراء الوقائع الظاهرة، ومن خلال الفحص والتمعن في الأحداث العالمية التي حدثت في السابق، أو تلك التي تحدث اليوم، يمكننا أن نحدد مجموعة من الطرق التي تنتهجها (س ع م) لتحقيق سيطرتها العالمية وسنوضحها باختصار غير مخل على النحو التالي:
- حكم الأقليات: (مَنْ قَلَّ، إنْ حَكَمَ طغى وأَذَلَّ، فعُقدة النقص تستوطن كلَّ قليل): داء المجتمعات خلل الاندماج الذي يكوّن الأقليات، وعقدة الأقليات حب الوصول للسلطة، وفي سبيل ذلك قد تفرِّط بكل شيء في الدولة ابتداءً من الجوانب المادية كالأرض والثروات والأوطان والناس… إلخ، وانتهاءً بالجوانب المعنوية كالمعتقدات والدين والمبادئ والقيم والأخلاق والانتماء… إلخ. لذا تستخدم (س ع م) كل نفوذها وتسخر كل جهودها لدعم الأقليات وتمكينها أينما وجدت لتحقيق أهدافها وغاياتها، وهي تتركها عندما تدرك أن تكلفة دعمها أعلى من تكلفة التخلي عنها مثل ما حدث في زنجبار.
تمكن الأقليات من سدة الحكم يؤدي في الغالب إلى خلق اختلال في هيكل السلطة، وذاك مطلب (س ع م) وغايتها، وهي تطبقه في أغلب دول العالم وخاصة في الدول النامية، لذلك نجدها تدعم وجود سلطة الأقليات بقوة وإن لم يحدث ذلك؛ فهي على الأقل تسعى إلى تمكينها من أداء دورٍ مهيمنٍ على أشرعة السلطة والحكم داخل الدول والحكومات، فبالضغط على حكومات الدول من جهة، ومن جهة أخرى، باستخدام وسائل الترغيب المتعلقة بالمساعدات والصيت والمكانة الدولية.. هي تدرك مغبة حصول الأقليات على السلطة، وما معنى أن يحدث ذلك، وما يمكن أن يؤدي إليه من تمزق وصراع على صعيد البنية السياسية، وما قد يترتب عليه أيضاً من اختلال بنيوي على صعيد المجتمع، كما أن الاستئثار بالسلطة، أو التمكن من مرتكز رئيسي فيها من قبل فئة تمثل الأقليات يؤدي بشكل شبه مؤكد إلى بروز نزعة استبدادية، وتحوصل فئوي سلطوي من منظور عنصري، ذلك بدوره، يؤدي في المطلق إلى احتقان مجتمعي مضاد وناقم، يتحين الفرصة للثورة أو القيام بالتمرد.
إذًا، في ظل وجود غالبية مجتمعية متحفزة للثورة، والثأر، فبالضرورة أنه سيصاحب ذلك استجابة خوف من الأقلية تترجمها على شكل إجراءات رادعة وعنيفة، وفي نهاية المطاف سينتج عن ذلك قيام السلطة الحاكمة بتسخير كل إمكانات ومؤسسات الدولة لإيجاد آليات دفاعية يتمحور جوهرها في تكريس حكمها بالاستبداد، والقهر، والظلم، وسيتبع ذلك تلقائيًا قيامها بالاستئثار بكل خيرات الدولة، لإحكام السيطرة على المجتمع، والاستعداد لأي طارئ قد يهدد وجودها، وسيترتب على ذلك قيام مسؤولي وقيادات السلطة باكتناز الأموال وكذلك الاستئثار بمقدرات الدولة، ونتاج خيراتها وتحويلها إلى الخارج، حيث تكون محطتها النهائية بنوك وحقائب استثمار لدى (س ع م) أو تحت سيطرتها؛ وبالتالي فإنها تصبح مستعمر محلي، ينهب، ويسلب ويدمر ويخرب دولته ليرفد خزائن(س ع م) بالأموال التي لا تبذل في ذلك أي جهد سوى توفير الغطاء والدعم الدولي.
لكل ما سبق، نتيجة وخيمة على مصير الدول التي تحكمها سلطات الأقليات كونها كدولة تصبح رهينة قرارات وإملاءات (س ع م) التي تبتزها بشكل دائم وتحقق بها أو من خلالها أهدافها ومصالحها. - صناعة التنظيمات في الدول: (كل تنظيم ينشأ في الدولة تنمو في أحشائه مؤامرة ضدها): التنظيمات هياكل منظمة تعمل على تقسيم المجتمعات وإعادة فرزها اجتماعيًا، ثقافيًا، سياسيًا، دينيًا، طائفيًا، وفي بعض الحالات جغرافيًا(مناطقيًا).. وبعكس مؤسسات وهياكل الدولة التي تعمل على توحيد مكونات الشعب، تعمل التنظيمات على صعيد البنية المجتمعية على خلق وتعميق الانقسامات بينها.. إن وجود التنظيمات يتعارض مع مضمون نشوء الدولة، ويتضارب معها وظيفيًا في مسائل عامة حال الانتماء والولاء، بل وينازعها سلطويًا في مسائل جوهرية تخص الحكم حال الشرعية، وفي مسائل جزئية حال المشروعية.
بشكل عام، ظهور التنظيمات غير المؤطرة قانونيًا في الدول يعد مؤشرًا مهمًا لوجود مشاكل فيها، أما ظهور التنظيمات الدينية فهو أحد مؤشرات ضعف الدولة، وذلك لافتقاد سلطتها الشرعية أو المشروعية، أو لعجزها عن استيعاب مطالب واحتياجات شعبها من جهة، ومن جهة أخرى قد يعبر ذلك عن حجم المؤامرات التي تحاك ضدها.. فوجود التنظيمات يؤدي بالضرورة إلى مواجهة حتمية بينها وبين الدولة.. نعم، قد تختلف طبيعة المواجهة باختلاف نوع التنظيم ومشروعية وجوده وطبيعة نشأته، فعلى سبيل المثال؛ نجد أن التنظيمات المؤطرة قانونيًا مثل التنظيمات السياسية والحزبية تواجه الدولة حصرًا في مكوّن السلطة السياسية عبر الانتخابات، أو على شكل مطالب مصلحية، أو قد تكون مواجهاتها مدنية احتجاجية مثل جماعات الضغط والمصالح المختلفة، كالنقابات، والتكتلات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية… إلخ.. لكن المواجهة قد تأخذ طبيعة عنيفة، أو تمردًا ضد الدولة من التنظيمات غير المؤطرة قانونيًا أو سياسيًا حال تنظيمات الأقليات أو التنظيمات المبنية على أساس جغرافي(مناطقي)، أو التنظيمات الدينية والطائفية.
تنشأ كل التنظيمات بحجج ظاهرها النُبل وخدمة المجتمعات، أو أهداف محددة من مكوناتها كمبادئ ومطالب تتضمن إجمالًا تكريس المساواة، وتحقيق العدالة المجتمعية.. هي كذلك ابتداءً، حتى تنمو، وتتوسع، وفي الفرصة الملائمة أو من خلال قيادة طموحة، أو مرتهنة وعميلة، لا تلبث أن تُخرج أثقالها المقيتة، وتبدأ في السير بأتباعها نحو العنف ومواجهة المجتمع والدولة.. وأخطر تلك التنظيمات وأكثرها رعايةً واستخدامًا من قبل (س ع م) هي التنظيمات الدينية أو الطائفية، التي نشاهد أغلبها تواجه الدولة والمجتمع، وفي أوضاع محددة يتم دعم بعضها لتتحول إلى طائفة منحرفة عن الدين الذي أوجدت نفسها باسمه، أو حتى قد تتحول إلى ديانة مستقلة بذاتها، وتلي التنظيمات الدينية خطورةً التنظيمات المستندة على قواعد وأُسس عنصرية أو مناطقية، فوجود مثل هذه التنظيمات يتعارض بحدة، وبشكل مباشر مع جوهر الدولة ووجودها، وإن تم تصويره بغير ذلك، كأن يُصَّور مثلًا على أنه حراك سياسي وجد بسبب خلاف مع نظام الحكم أو تحت ذريعة محاولة نيل مطالب مشروعة.
بشكل عام، إذا تحركت التنظيمات فإنها قد تُحدث ضررًا مباشرًا، أو غير مباشر، على كل مكونات الدولة (الشعب، الإقليم، السلطة السياسية، السيادة، الاعتراف “الداخلي والخارجي”) وبشكل خاص، ضررها، وإن كان مرتكزًا على أحد مكونات الدولة، فإن تأثيره قد يمتد ليشمل باقي مكوناتها أو على أقل تقدير مكونات أخرى فيها.
مما سبق، ندرك أن خطة (س ع م) المفضلة في لعبة التفتيت، هي القيام بخلق التنظيمات داخل الدول، من خلال دعم أي زعامات طموحة تسعى لتكوين تنظيمات، أو عبر صناعة زعامات أو قيادات مجتمعية لتبنِّي قضية، أو أي توجه ما، ومن ثم تقوم بتهيئة الظروف لإيجاد التبريرات التي تساعد في نشوء هذه التنظيمات، ذاك أسلوبها الفريد الذي تنتهجه سرًا لدعم صناعة التنظيمات، وعلنًا عند رعايتها ودعمها ماديًا، وأيضًا هي من تقوم بتبني مطالبها المعنوية والمادية، بل وتعمل بجهد حثيث على تسويقها كحقوق شرعية ومشروعة دوليا، معتمدةً على طرقها ووسائلها الملتوية والخبيثة في تنفيذ ذلك. - إيجاد بؤر النزاع والخلاف داخل المجتمعات: (الاستسلام والخضوع محصلة للفشل، والفشل نتاج التنازع والخلاف).
لا يوجد مجتمع في أي دولة في العالم يخلو من الانقسامات والتنوع سواءً على المستوى العرقي، أو الثقافي، أو على المستوى الجغرافي أو على أكثر من صعيد من ذلك.. ومن هنا، فإن بقاء المجتمع مُستقراً بلا اضطرابات أو صراع أو مشاكل أو أزمات، يظل رهين فرص مكوناتها المجتمعية، وحبيس الظروف المحيطة التي تُحفز ظهورها.
عطفا على ما سبق، من المؤكد، أن لدى (س ع م) قاعدة بيانات كاملة ومتكاملة للخلافات داخل كل المجتمعات، لأنها قد أشبعت كل دول العالم بحثاً ودراسة، وبذلك فهي تستطيع إدارتها أو إخراجها إلى حيز الوجود متى، وكيفما أرادت؛ فمن خلال وسائلها وأدواتها، عند رغبتها السيطرة على أي دولة فإنها تقوم بتغذية وتأجيج أي اضطرابات داخلها عبر مسميات وأشكال عديدة، منها؛ العدالة، المساواة، أو السلام وخاصة مع الأقليات الدينية، أو العرقية، أو الاجتماعية المستحدثة. - افتعال بؤر نزاع بين الدول المتجاورة: (عندما تتناطح الثيران تصبح فريسة سهلة)
وضعت (س ع م) مجموعة من النقاط الشائكة قبل/عند مغادرتها الدول التي كانت تستعمرها، واختارتها بعناية، وقد جعلتها وتدًا إمبرياليًا راسخًا تستطيع به التدخل في أي وقت ترغب، كما تستطيع إشعال أي نزاع بين الدول الإقليمية المتجاورة، سواءً بإثارة النزاع الحدودي بينها، أو بسبب إثارة قضية استغلال المناطق ذات المنافع الاقتصادية التي تكون واقعةً في الحدود المشتركة بينها، أو حتى بحجج ضرورة توفير الحماية والأمن للأقليات التي تقع داخل حدود بعضها البعض وتنتمي طبيعيًا أو عرقيًا أو دينيًا لدولة ما وهي في دولة أخرى مجاورة، أو بسبب محاولة استعادة /الحفاظ على الحقوق التاريخية، جغرافيًا أو أثريًا، وما شابه ذلك. - خلق عَدُوٍ إقليمي: (تُسيّر من تُريد أينما تُريد إذا استطعت شيطنة كل من حوله).
عمدت (س ع م) إلى تقسيم الدول التي كانت مُستعمرة على أسس تضمن تشابكها مع جيرانها من الدول الأخرى، فهي تترابط مع بعضها البعض عبر قواسم مشتركة مثل: العرقية، الدينية، السياسية، أو الاقتصادية، أدى ذلك إلى وجود تمايز داخل كل دولة له ارتباط مع الدولة التي تجاورها مما يمثل بؤرة صراع محتمل بين الدول المتجاورة، يمكن تحفيزها وتغذيتها عندما ترغب (س ع م) في ذلك.. لذا فالكثير من دول العالم، وعلى وجه الخصوص دول العالم النامي، يوجد لها عدو كامن في نفس الإقليم، يتم إنتاجه في النظام الإقليمي بين الحين والآخر وفقًا لمصالح (س ع م) وغاياتها.
تظل محفزات الصراع في أغلب الأقاليم بيد (س ع م)، تحركها متى وأينما وكيفما شاءت.. وفيما يتعلق بمسألة إعادة تغذيتها شعبويًا، ونخبويًا، ففيها سهولة مطلقة وخاصة إن صُوِّرت على أساس المصلحة الوطنية والسيادة من جهة، ومن جهة أخرى طالما ظلت دوافع الدول الإقليمية تصب في محاولة نيل رضا (س ع م)، والاستفادة من هِباتها ودعمها السياسي، والعسكري والاقتصادي، لذا فإن مستويات ونوع الانقسامات على المستوى الإقليمي تظل حكرًا على رغبة (س ع م) وتوجهاتها، وهي من خلال ذلك تستطيع إعادة بلورة العداوات الإقليمية وفقًا لمصلحتها، فتحوّل عدو الأمس إلى صديق اليوم، والعكس صحيح. - خلق عَدُوٍ دولي: (صوّر الشر في عَدُوٍ، ونصّب نفسك حامي الخير، تأخذ كل ما تريد ممن تريد).
على غرار العدو الإقليمي، تخلق (س ع م) العدو الدولي، إلا أنها هنا هي من تتبوأ رأس الحربة في مجابهة هذا العدو كحامية للشعوب منه ومن ثم تقوم بتوجيه العالم نحو مواجهته، وفي سبيل نجاح نخططها فإنها تسعى بكل السبل والوسائل لشيطنة هذا العدو، وتصويره كعدو للسلام العالمي، أو من خلال تعزيز المخاوف الدولية من مبادئه أو قيمه التي يرتكز عليها، أو من خلال تصويره ككيان يسعى لاستخدام وسائل خطيرة تهدد الأمن العالمي (مما يمس بحياة الشعوب بشكل مباشر وغير مباشر)، وبذلك ترفع وتيرة القلق الدولي منه وتضمن في ذات الوقت، تعزيز القناعات على المستويات السلطوية والمجتمعية لتحقيق فعالية المواجهة واستدامتها.. تعمل (س ع م) على كل ذلك بقوة وثبات من خلال استغلال الأمم المتحدة، التي تعتبر الأداة الاستراتيجية الرئيسية لها، لقد ثبت نجاحها على مدى عقود طويلة مضت، بل إنها لم تعد بحاجة إلى المواجهة بشكل مباشر بعد أن أوجدت متغيرًا جديدًا لمواجهة آمنة تخلو من المشاكل. - إشعال الحروب والحرائق السياسية: (لاستنزاف قوة الخصوم وتدميرهم والسيطرة عليهم أشعِل الحرب بينهم)
فرّق تسُد، مثل قرأناه كثيرا، هو تعبير عن خبث السياسة الاستعمارية التي كانت تذكي نيران الصراعات والنزاعات بين الفرقاء والقوى المجتمعية على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية داخل الدول، لتسهيل السيطرة عليها، مع تفضيل وصول تلك النزاعات إلى الحرب حتى تنتهي جميع القوى أو على الأقل تُنهك قواها تماما وبشكل تعجز فيه عن أي مقاومة.
نيران الحروب أشد فتكًا على الدول والمجتمعات من أي كوارث أخرى قد تصيبها، فهي كارثة دائمة تظل مستعرة تحصد الأرواح وتلتهم البنية التحتية وتسحق الأمن والاستقرار.. شرارةً صغيرة، إن وجدت لها البيئة المناسبة، تقوم بإشعال جحيمًا يدمر ويحيق بكل شيء ويجعله كالرميم، لذلك فهي من أخطر التقنيات والأساليب التي تستخدمها (س ع م)، وهي متمرسة جدا في خلق مبررات إشعال الحروب في/بين الدول، وفي مسألة توقيت إيقاد وبعث شراراتها، وهي من تعمل على تهيئة الظروف المناسبة لإيقادها، خاصة في الدول التي لها أهدافًا فيها، والتي تكون غالبا ممن تتمتع بثروات وإمكانات وقدرات اقتصادية، فعندما تكون عصية أو يصعب إخضاعها، فإن أفضل الطرق التي يتم استخدامها معها هي اشعال الحروب الأهلية داخلها.. وإشعال مثل هذه الحروب لا تحتاج إلا لقيادات أو زعامات متعددة، مع إيجاد نفوذ كبير لها داخل أي دولة، ومع تنمية أطماعهم السلطوية عبر تسهيل تملكهم موارد ذاتية داخل الدولة، ومن ثم دفعهم لامتلاك سلطات سياسية وجيوش أو ميليشيات، ومن ثم تمنيتهم بتوفير الدعم والغطاء الدولي لهم إن هم سعوا للاستفراد بالحكم، عندئذ تشتعل الحروب الأهلية طمعا في السلطة.
أما فيما يتعلق بالحروب بين الدول، فالأمر لا يحتاج سوى أخطاء أو تجاوزات مقصودة أو غير مقصودة مع تعظيم نتائجها سياسيًا، وتهويل أحداثها اعلاميًا، وبما يسبب حرج للدول ويتسبب بإثارة شعبوية مع فتح قنوات من (س ع م) مع قيادات بعض تلك الدول وكيل الوعود بدعمها لتحقيق استجابة سلطوية تتجه نحو اشعال الحرب وخوضها، وهي التي إن ابتدأت سهلة، فإن إنهائها يتحول إلى صعوبة كبيرة فالتحكم بمجرياتها وأحداثها يخرج من نطاق سيطرة الدول التي تورطت فيها، وقد رأينا حديثا الكثير من تلك المحاولات ومنها على سبيل المثال محاولة جر روسيا في حرب مع تركيا، والتي كانت الحرب المفضلة لـ (س ع م) حيث كانت ستحقق هدفين مهمين بشكل مثالي، هما:
الأول: تدمير تركيا لأن رحى الحرب كانت ستدور فيها وإن كانت ستحصل على المساعدات من حلف الناتو فلن تكون إلا لتعظيم خسائرها وزيادة في تدميرها.
الثاني: كانت ستجر روسيا إلى حرب ضروس مع أقوى حلف عسكري في العالم، مما سينهكها بسبب أعباء الدعم اللوجستي الهائل الذي ستتكبده نظرًا لبُعد الدولتين عن بعض، كما أن ذلك كان سيتسبب في إفراغ ما لديها من مخزون صواريخ استراتيجية وطائرات حديثة واستنزاف مواردها في حرب تقليدية، ورأينا كيف اضُطرت (س ع م) بعد أن فشل ذلك المخطط في استخدام الخطة البديلة المتمثلة في إشعال الحرب مع روسيا في منطقة أخرى (أوكرانيا).
2-الطرق غير التقليدية: (يعيش طويلًا من لا تموت حيلته)
بالاستنباط، ومن خلال التنقيب في وقائع بعض مسارات القضايا الدولية، وبتحليل مآلاتها بشكل عميق وجريء نستطيع التكهن بشيء من اليقين أن (س ع م) تنتهج مجموعة من الطرق المبتكرة لإحكام سيطرتها على العالم والتحكم به، نوضحها باختصار على النحو التالي:
- السيطرة على الاقتصاد العالمي وروافده: (من بيده قوت الناس يمتلك مصيرهم).. بعد سيطرة الدولار وهيمنته على أوراق البنكنوت الدولية وعلى سوق النقد العالمي، أضحى الاقتصاد العالمي: عبدًا صاغرًا مكبَّلا لسادة الدولار وصانعيه، فلا اقتصاد مستقل، ولا استقرار مالي مضمون، ولا دورة نقدية ناجحة لأيٍ كان دولةً، أو شركةً، أو أفرادًا، إلا وتدور في فلك الدولار ولعبته المرسومة كنظام، كل خيوطها وقواعدها بيد كيان واحد، هو من يبدلها ويعدلها متى/كيفما/أينما شاء، وبحسب احتياجاته ومصالحه.
لقد أضحى الدولار أقوى سلاح يمكن استخدامه من (س ع م) في مجال التجارة العالمية والاقتصاد الدولي، وبه تستنزف، وتنهب مقدرات وثروات الشعوب.. في الحقيقة، لقد أصبحت أغلب شعوب دول العالم في رسم موظفي السخرة لدى سادة الدولار.. وقد شاهدنا ونشاهد اليوم كيف يتم نقل ثقل الإنتاج العالمي بين الحين والآخر من مكان إلى آخر ارتباطًا بالمصلحة من جهة، ومن جهة أخرى استغلالًا لموارد وثروات بعض الدول المادية والبشرية، حيث نجد أن شعوب الدول المستهدفة تعمل بجد، وتستنزف مواردها بعنف، مقابل رُزَمٍ من الأوراق النقدية، أو بمقابل مجموعة من الأرقام تسمى الأرصدة البنكية تكوّن ثروة وهمية اسمها الدولار؛ في الحقيقة أن الأمر يشبه إلى حد بعيد أفلام هوليوود التي تتحدث عن غزو مخلوقات فضائية لأجل استنزاف موارد الكرة الأرضية لكنها هنا تحدث بكائنات دولارية تستنزف موارد الدول وثرواتها ثم تتركها بعد أن تدرك أنها نالت مرادها منها، أو أنها أصبحت تمثل أعباء ومخاطر عليها أكثر من فائدتها، تصبح فيما بعد تلك الدول منهكة ومستنزفة إلى أبعد الحدود، ويتم اعتقال حريتها الاقتصادية وتكبيلها بالأرصدة المتراكمة في البنوك وباحتياطي الدولار.
للتأكد من مسار هذا التحليل، يمكن مراجعة أحداث كوفيد 19 وما ترتب عليها من فضائح تصنيعية تتعلق بإنتاج أبسط مقومات الأمن القومي الصحي لكثير ممن تسمي نفسها دول العالم المتقدم، وخاصة أمريكا وأوروبا، لقد أثبت وبما لا يدع مجالًا للشك أن كل ثقل الإنتاج العالمي انتقل إلى الدول ذات العمالة الرخيصة والموارد الوفيرة مثل الهند والصين والبرازيل وغيرها، بينما يتعاظم محور الاستهلاك فقط في دول منظومة (س ع م) في أمريكا وأوروبا، ومقابل ذلك تعطي أوراقًا مصبوغة (بنكنوت) أو أرقامًا (رصيد بنكي) وكل ذلك لن يساوي شيئًا عند الاحتياج الحقيقي، كما أن تلك هي الثروة الوهمية التي يمكن إلغاؤها أو تصفيرها متى اقتضت الحاجة لذلك تحت أي مسمى أو مبرر.
لقد أضحت الأرصدة، والودائع، وسندات الدين العام، والاستثمارات المباشرة، بيدها منظومة (س ع م) سلاحًا فتاكًا مرعبًا، تخافه وتخشاه أعتى الدول، فهي تدرك أن استخدامه ضدها يعني إفقارها، ونهب كل ثرواتها، وتدمير اقتصادها، بهذا الخوف، تقوم (س ع م) بترويض طموح تلك الدول وبه تكبح جماح اندفاعها نحو الأمام، وفي المجمل تُكبل أهدافها الاستراتيجية لتبوء أي مواقع منافسة على صعيد العالم.
مما لا شك فيه، أن استخدام هذا السلاح له جانبان:
الأول: يحدده بقاء الأمور على وضعها المعهود، وبالتالي يظل مصدر القوة صوريًا بيد الدول التي تمتلك تلك الأرصدة والودائع، وسندات الدين العام، والاستثمارات.
الجانب الثاني: يحدده من عنده تلك الأرصدة، بقدرته على مصادرتها، أو تجميدها، أو حتى إلغائها، عليه فقط إيجاد المبرر الذي يسمح له بذلك؛ رأينا ذلك جليًا يحدث لروسيا بمبرر حربها ضد أوكرانيا واليوم نرى مقدار المحاولات الحثيثة التي تبذل من أجل توريط الصين في حرب مع تايوان لاستخدام هذا الإجراء معها.
لعبة البترودولار في رمقها الأخير، وهناك استعداد لقلب الأوضاع العالمية الحالية المعتمدة عليها، فجهود أمريكا منصبة على الاستعداد لذلك، فقد أصدرت مؤخرًا قانونًا يوفر حوافز وتسهيلات لنقل صناعة أشباه الموصلات إلى أراضيها، حيث قام الرئيس الأمريكي جو بايدن في 9/8/2022م بالتوقيع على قانون CHIPS لمنح مساعدات بقيمة 52.7 مليار دولار لإعادة تحريك إنتاج أشباه الموصلات في أمريكا، حيث اعتبر أن ذلك بمثابة أمن قومي أمريكي.. وأشارت قناة CNBC عربية إلى أن القانون سيوفر 280 مليار دولار من التمويل الجديد لذات الغرض، وهو يمثل طموح تسعى بواسطته أمريكا إلى إعادة السيطرة على العالم بوجه جديد من خلال السيطرة على القوة الاقتصادية والاستراتيجية الصاعدة لصناعة أشباه الموصلات في العالم كبديل للبترودولار، يتبقى عليها إقناع جميع الشركات الأوروبية والعالمية بالانتقال للعمل في أمريكا، وأفضل الطرق لذلك، هي رفع درجة مخاطر بقاءها في بلدانها، وبهذا ندرك سبب ومقصد إشعال الحرب الروسية الأوكرانية، فهي تؤدي بشكل مباشر إلى الإضرار اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا بطرفي الحرب بالدرجة الأولى، وبالدول الأوروبية بالدرجة الثانية؛ هي حتمًا محاولة خبيثة لإفراغ أوروبا من أغلب مصانعها النوعية، وهو ذات المخطط بالنسبة للصين التي يتم محاولة توريطها في تايوان، وهو نفس الغرض في محاولة استثارة كوريا الشمالية ضد جارتها الجنوبية، وهو كذلك يفسر التحرشات في شرق آسيا وفي بحر اليابان لدفع اليابان إلى نفس المربع.. الحقيقة التي لا تُخفي نفسها، أن كل حدود الصراع المرسومة حاليا والمستهدفة في العالم أجمع توضح أنها ليست إلا خدمة لإنفاذ قانون CHIPS. - السيطرة على مؤسسات صنع القرار (من يمتلك صنع القرار يمسك زمام الأمور): في الحقيقة، أن الطريقة الغربية للوصول إلى الحكم عبر انتخابات مباشرة من قبل الشعوب، هو مبدأ ديموقراطي من حيث الفكرة فقط، أما من حيث التطبيق فإنه لا يمثل إلا ديكتاتورية الأقلية، عبر أصوات أغلبية الأقلية؛ لشرح هذه العبارة سنخوض سجالًا فلسفيًا يتطلب إيراد بيانات وإحصائيات كثيرة، لكننا سنختصرها بإيضاح بسيط على النحو التالي: إذا ما علمنا أن الانتخابات في الدول الغربية تتم بين أقلية سياسية تمثلها أحزاب تحتكر الحياة السياسية (حزبين إلى ثلاثة أحزاب) وهي المجال الأوحد للوصول إلى السلطة(تلك الأقلية الأولى)، الأحزاب السياسية مسيطر عليها من موجهين يمتلكون قراراتها وتوجهاتها(تلك الأقلية الثانية)، والأقلية الأولى والثانية تمثل أقليات التمثيل.. ولتوضيح أقليات الترشيح، نعلم أن أغلب من يصوتون في الانتخابات لا يمثلون إلا أقلية شعبية (تلك الأقلية الثالثة)، ومن جهة أخرى يكون فوز أحد أطراف التنافس الانتخابي بالحصول على أغلبية أصوات تلك الأقلية (تلك الأقلية الرابعة)، إذًا فالعملية الديموقراطية تمثل (أقلية مختارة من أقلية انتخابية اختارتها أقلية سياسية تمثل أقلية حزبية).
أضف إلى كل ما سبق، أن خيارات الناخبين تظل محدودة إما لمرشحي الحزب (س) أو لمرشحي الحزب (ص) واللذَين بدورهما يختلفان في قضايا للاستهلاك الانتخابي فقط، وعند التطبيق لا يمكن أن تتم مخالفة السياسية العامة للدولة والمرسومة في كواليس الحكم من السلطة العالمية العميقة.
بشكل قطعي، نجد أن كل مكامن صنع القرار في الدول الديموقراطية مسيطر عليها بدهاء منقطع النظير، حيث ترسم لعبتها الظاهرة أيادٍ خفية، إنها فقط، تسيطر على الخطوة الأولى من عملية صنع القرار، فتقوم بتحديد أولوية المشاكل والأهداف، وبعد ذلك تترك باقي خطوات عملية صنع القرار للمحللين والوطنيين، والمخلصين لبلدانهم، وللمناقشات العلمية والتشاركية الوطنية والمحلية، كل مراحل صنع القرار المتبقية ستكون تلقائيًا مقيدة ومحصورة في إطار ما حددته الخطوة الأولى ولن تخدم إلا قرارها.
الكثير من السياسيين الغربيين يأتون خدمةً لمنبع سلطوي واحد، سواءً كانوا من عائلات سياسية، أو من غياهب شعبوية مجهولة، فكلهم بلا استثناء يركزون على نفس القضايا والمواضيع، وينفذون نفس الأجندات، ويحملون نفس الملفات الاستراتيجية، قد نجد أنهم قد يختلفون فقط في كيفية وأسلوب التنفيذ وفي أوانه. - السيطرة على مكامن اتخاذ القرار (الملفات الحادة): (من يرغب في السيطرة على أي كيان، يسيطر على متخذ قراره).
لُعبة الديموقراطية هي من أهم أدوات (س ع م) المفضلة على مستوى العالم. بها تستطيع إيصال من تريد إلى السلطة والحكم، وبها تعمل على إسقاط السلطات الحاكمة أو تخويفها بذلك؛ ولأن الديموقراطية لا توجد في كثير من بلدان العالم، والتي قد تفتقد إلى مؤسسات صنع قرار منتخبة بشكل حقيقي، فإن القيادة السياسية تتحكم في كل قرارات مؤسسات الدولة، أيًا كان شكل نظامها السياسي.. وبمعنى أدق، تخدم كل منظومات الدولة السلطوية ومؤسسات الحكم مرحلة واحدة في صنع القرار، هي مرحلة اتخاذ القرار فقط التي تكون فعلًا ومضمونًا بيد قيادتها.. ومن الصعوبة العبث فيها بالوسائل الديموقراطية لأن الانتخابات إن وجدت في هذه الدول فهي مزيفة ووهمية.. لذا تنتهج (س ع م) وسائل أخرى أكثر نجاعة وأقل تكلفة، لا تحتاج فيها إلى تخطيط كبير، ومختصرها في عبارة (سيطر على القائد تمتلك قراره؛ فتسيطر على الدولة).
مسألة السيطرة على قيادات البلدان لها مجالات عديدة ومتشعبة، ويكفي(س ع م) الإمساك بملفات حادة ضد قيادة بلد ما لتوجهها حيث تشاء، والخوض في أغلب ما نعنيه بالملفات الحادة موضوع شائك، وفي بعضها مشين، والتعرض لها بإسهاب يمثل حرجًا على كاتب هذه الدراسة، ولكن يمكننا الإشارة إلى الجحيم من بعيد؛ توجد ثلاثة طرق للسيطرة على متخذ القرار، إما عن طريق الابتزاز ومجالاته معروفة (قضايا أخلاقية، فساد… إلخ)، أو عن طريق التجنيد (استخباريًا لدولة عظمى تتبع منظومة “(س ع م)” أو استقطابًا تنظيميًا لـ “(س ع م)”)، أو من خلال التهديد المباشر بوسائل السلطة العالمية العميقة (س ع م) وأدواتها، أو التهديد غير المباشر من خلال دعم، أو التلويح بدعم بعض القوى المحلية المعارضة أو المنافسة.
لذلك نشاهد اليوم العديد من الدول لا تملك قرارها، فهي مرهونة بقرار قياداتها التي تُسيّرها (س ع م) بملفاتها الحادة، هذه الدول قد سجدت لمنظومة القرار الدولي العميق، ولازال بعضها يستعد أو يتهيأ لذلك، وعددٌ محدودٌ جدًا لازال يقاوم، ويتكبد تبعات ذلك ويتجرع نتائجه على الصُعد الاقتصادية والسياسية والمجتمعية. - دعم الأنظمة المُستَبِدة: (من يقيد الحرية في بلده يطلق عنان الفساد فيها، ويبتلع ثرواتها وخيراتها).. كل الأنظمة المستبدة تتجه نحو تعزيز سلطتها على الشعوب بالقهر، وبالحديد والنار.. وعندما تظهر نزعة الاستبداد لدى سلطة الحكم فإنها تعمل على تمثيل السلطة السياسية في الشخص الأعلى في الدولة “الرئيس-الملك” (شخصنة السلطة)، والذي ينحو في الغالب إلى تسخير منافع السلطة خدمةً له ولعائلاته، وأقاربه، والمنتفعين من حوله، فينتشر الفساد وتُنهب الثروات وتُحتَكر خيرات البلاد ومواردها بأيديهم، ولأن ذلك يؤدي إلى نقمة الشعب وخشيةً من حدوث أي مواجهة معه تُسخّر السلطة ما يتبقى من موارد البلاد وتوجهها نحو تعظيم قوتها العسكرية والأمنية.
السلطة المستبدة تؤدي إلى إخلال الدولة بالتزاماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تجاه شعوبها، وتعيق بشكل كبير من تقدمها ونماءها، وتُضعِف التنمية بشكل كبير وتدمر النمو الاقتصادي في الدولة، (س ع م) هي من تحصد فوائد كل ما سبق، فهي تحقق غايتها في تعميم التخلف في دول العالم ذات الثروات والإمكانات التي تمثل أهمية اقتصادية لها، ولذلك جانب مهم وفق استراتيجية (س ع م) لإبقاء أي بلد رهين التخلف والفقر كأهم محورين يستخدمان في تقييد نهضة الشعوب وفي تكبيل نزوعها نحو الاستفادة من خيرات أوطانها.. كما إنها هي من تكون المحطة النهائية لعائد كل تلك العمليات وفوائدها، فالخوف من قيام الشعب بانتفاضة أو تمرد أو ثورة يظل ملازمًا لكل من يوجد في السلطة وكل المنتفعين بها، واستعدادًا لأي طارئ قد يجبرهم على الهروب، فإن خيارهم المفضل سيكون تهريب الأموال خارج حدود الدولة، لذلك تقوم (س ع م) بغض الطرف عن أغلب تلك الأنظمة، بل وتدعمها وخاصة البلدان التي تزخر بحظ وفير من الثروات والإمكانات الاقتصادية، طالما ظلت سلطاتها تبتلع ثروات بلدانها على شكل ورق بنكنوت أو تقوم بتصديرها أرصدة إلى بنوك (س ع م). - إعاقة انتقال الحكم سلميًا: (الجديد في لُعبة لا يعرفها يبتدئها من أولى مراحلها).. عندما تستولي جماعة، أو فئة، أو تنظيم، على الحكم، قسرًا أو انقلابًا، فإن محور اهتمامها سينحصر في احتياجات قياداتها.. والتي ستتركز وفقا لهرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية على تلبية حاجاتهم الفسيولوجية بالدرجة الأولى، والتي تعني أمرًا واحدًا هو الاستئثار بخيرات الدولة لتلبية تلك الاحتياجات، وبصياغة أخرى، ستنتهج السلطة الحاكمة الفساد ونهب المال العام.. وبعد أن تحقق احتياجاتها الفيسيولوجية ستتجه نحو تحقيق الاحتياجات الأمنية بالدرجة الثانية، وفي المقابل ستطلق يد جبروتها المرعبة وبالحديد والنار ستبطش بمجتمعاتها لكي تُأَمِّن مكتسباتها التي استحوذت عليها وتُخَفِّض من مستويات التوتر والقلق والخوف لديها.. يترتب على ما سبق تهريب مقدرات وثروات الدولة إلى خارجها استعدادا منها لأي طارئ قد يحدث، وفي الغالب يكون موقعها بنوك ومصارف دول منظومة (س ع م).
في المستويات الأعلى من هرم ماسلو التي فيها: الحاجات الاجتماعية، وحاجات تقدير الذات، وحاجات تحقيق الذات، تتجه قيادات الدولة نحو محاولة سَلْمَنة الحكم ومأسسة السلطة، مع إعادة توجيه جزء من موارد وخيرات الدولة نحو خدمة المجتمع لتلبية وإشباع متطلبات حاجاتها في المستويات الأعلى، وأغلب تلك السلطات في نهاية المطاف تسعى لتوريث السلطة عائليًا بشكل سِلمي، والذي إن حدث فإن ذلك يعني أن السلطة الحاكمة ستظل محصورة في مستويات الحاجات الأعلى مما يعني لـ(س ع م) تفرد وإحجام عن تقديم أي تنازلات والاتجاه نحو المزيد من المؤسسية، ونحو ترسيخ السلام داخل الدولة.
في هذه المسألة بالذات تبذل (س ع م) كل جهودها لضمان عدم قيام الأنظمة الحاكمة بعملية الانتقال السلطوية سلميًا، هي تسعى نحو إحلال أنظمة جديدة مكان الأنظمة السابقة سلطةً، وهياكلًا، ونظامًا، لتظل الدولة تفتقد إلى المؤسسية ويستمر تخبطها من جديد ليسهل انقيادها، بل إن بعثرة جميع أركان الدولة (تجزئتها وتفتيتها) يظل هو الخيار المفضل لـ(س ع م) والذي إن كان بمقدورها تنفيذه فلن تتوانى عن ذلك قطعًا. - الاتفاقيات والمواثيق الدولية: (من استَعقد ميثاقًا على نفسه فقد استوثق صكا لعبوديته).
يتم ممارسة ضغوطًا هائلة على الدول لإلزامها بالتوقيع وإقرار الكثير من الاتفاقيات الدولية، سواءً كانت هذه الاتفاقيات مع المنظمات الأممية (الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة) أو مع أمريكا كدولة، الدول بعد أن تجد نفسها مضطرة للتوقيع حتى لا تتعرض للعقوبات الأممية، أو الأمريكية، تكتشف فيما بعد أنها ملزمة بتطبيقها على الرغم من أن الكثير من هذه الاتفاقيات، أو بعض بنودها، تتعارض مع مصالحها أو مع أمنها القومي أو مع بعض قوانينها المحلية، تلك هي إحدى الوسائل التي تمرر بها (س ع م) مشاريعها ومصالحها على دول العالم.
في مراحل متقدمة من الاستحكام على الدول بالمواثيق والاتفاقيات، يتم وضع بروتوكولات إضافية كملحقات لها والتي توثق قيودا إضافية على الدول وتكبلها بشكل أكبر تحت مسميات توحي بأن لها حرية التوقيع عليها كمسمى (بروتوكول اختياري) لتجد الدول فيما بعد أنها تُستبعَد من بعض الميزات أو المساعدات الفنية بحجة عدم توقيعها على البروتكولات الاختيارية. - المنظمات الدولية: (من أوكل ضرورات حياته وتوفير احتياجاته بيد غيره ارتهن له).. أضحت كل المنظمات العالمية الفاعلة على الصعيد الدولي أداة بيد (س ع م) ابتداء من الأمم المتحدة وانتهاءً بالمنظمات الدولية غير الحكومية، أو الحكومية ذات النشاط الدولي، هذا ليس اتهامًا، بل هو واقعٌ معاشٌ أثبتته مئات التجارب والتطبيقات التي تؤكد انحياز أنشطة تلك المنظمات العالمية الكامل مع أي توجهات تتماشى مع أهداف (س ع م) الحقيقة التي لا يمكن إغفالها أو تجاهلها مطلقًا هي أنه لا توجد اليوم منظمة عالمية تعمل في الميدان الدولي، على الإطلاق، يمكنها أن تخرج عن توجيهات(س ع م) أو حتى تجرؤ على خرق القواعد الموضوعة لها.