الفجر المظلم ” الحلقة الأولى”

تمهيد: مُؤخرًا، أثبتت الأحداث على المسرح الدولي أن السلطة العالمية العميقة (س ع م) قد أحكمت سيطرتها على أغلب دول العالم؛ وعلى وجه الخصوص دول العالم المتقدم؛ فمن غير المعقول أن تتدخل دولٌ عظمى في حربٍ تؤدي إلى تقويض سبب ازدهارها ونمائها وتقدمها كما يحدث حاليًا في الحرب الروسية الأوكرانية، كمسرح لأحداث عالمية شديدة الخطورة، نشاهد فيه حربًا يكتنف أهداف أوروبا حولها غموض شديد، ويعتري مؤشراتها السياسية والاقتصادية تخبطٌ عالمي، بسبب سير إجراءات الصراع واتجاهاته، وأهدافه.. كل الأحداث المشتعلة اليوم في أوروبا لا تصب في مصلحة أيٍ من الدول المتصارعة، جميعها بلا استثناء، إلا مكون (س ع م) فهو الوحيد الذي يستفيد بشكل كبير من هذا الصراع، لذا نجد أنه يعمل على تغذيته بقوة.. وعلى الرغم من المخاطر العالية التي قد يجلبها هذا الصراع على منطقة أوروبا؛ بل وعلى صعيد العالم أجمع، إلا أن (س ع م) تسير بالصراع نحو مزيدٍ من الاتساع، بل وتُحفز بقوة وإصرار كل العوامل التي تجره نحو زيادة حدته، والتوغل في كل ما من شأنه أن يعمق مسبباته، فتضع أمام قيادات الدول الأوروبية المتصارعة خيارًا حتميًا وحيدًا مضمونه استمرار المواجهة مع روسيا، بل وتصعيدها على كل الأصعدة.
يوماً بعد آخر، تتضح استراتيجية (س ع م) في السيطرة على كل الدول سياسيًا واقتصاديًا، فبسلطتها شبه المطلقة على الإعلام والاقتصاد العالمي تقوم بدفع أتباعها المخلصين إلى مصادر السلطة والنفوذ في دولهم.. إذ إنه لا تفسير مقنع يستوعب الخنوع والخضوع غير المنطقي لدى القادة السياسيين الأوروبيين تجاه مسارات الصراع المدمر في المنطقة الأوروبية، والذي لا يخدم بلدانهم على المدى القريب ولا البعيد، إلا إذا رجحنا أنهم يقبلون بالمضي قُدمًا في جحيم الأحداث كونهم (القادة الأوروبيين) ينتمون تنظيميًا لـ (س ع م) وينفذون توجيهاتها وتعاليمها.. وفي ظل قدرة منظومة (س ع م) الإعلامية الهائلة على تغييب الشعوب الأوروبية عن الأحداث ومجرياتها الحقيقية، نجد أن كل الشعوب في أوروبا وأوكرانيا تمر في حالة من الصدمة، التي يصاحبها ذهول شديد وتبلد، فعلى الرغم من أنهم يشاهدون انحدار رفاهية ونماء واستقرار بلدانهم إلى مستويات متدنية بسبب الحرب، ويشعرون فعليًا بنتائجها في الجانب المعيشي لهم، دون أن يستطيعوا فعل شيء أو حتى البوح بالاعتراض مجتمعيًا أو حتى إعلاميًا.
وضع التحكم والسيطرة والاستغلال الذي تمارسه السلطة العالمية العميقة على الدول بشكل عام، نستطيع أن نطلق عليه مسمى (أفيوسيبس) (Ophioceps) كمصطلح مزدوج يمزج بين ما يفعله الأفيون Opium)) في الشعوب، التي تكون في حكم المخدرة انتشاءً وإدمانًا وسلوكًا وبين ما يعمله فطر أوفيوكورديسبس أونيلاترالس (Ophiocrdyceps unilateralis) في السلطة السياسية التي أصبحت في حكم المسيّرة كسلطة مسلوبة القرار والإرادة.. في ذلك، وعلى وجه الخصوص، نجد أن غالبية الدول الأوروبية باتت اليوم في حكم الحالة (أفيوسيبس) (Ophioceps) تحت سيطرة (س ع م)، تُمسك بمفاصل السلطة فيها وتتحكم بمكامن ومصادر قرارها، وتجعلها تتحرك وكأنها دمى مسلوبة الإرادة، فنشاهد قياداتها السياسية تُغيّب مصالح شعوبها مجبرة، وتتخلى عن مصالح أوطانها الاستراتيجية لتحقيق أهدافٍ خفية لـ(س ع م) قد تكون بالنسبة لها غير واضحة المعالم والغايات.

أولاً: الاستراتيجيات العامة التي تطبقها (س ع م) للسيطرة على العالم:
بتتبع الأحداث إبّان موجة توحش الإمبريالية العالمية، والطمع الرأسمالي في القرنين الماضيين، أثناء محاولة السيطرة على العالم وفق مبدأ الاحتلال المباشر لبعض الدول ذات الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية، نجد أن مقاومة الشعوب الشرسة للاحتلال قد أعطى درسًا لكل الدول التي انتهجت الاستعمار المباشر، وأوضح لها التكلفة الباهظة التي ترتبت عليه من جهة، ومن جهة أخرى قلة جدواه وتأثيره وديمومته.
في كل الأحوال، وعلى الدوام، تعرف (س ع م) بالتجربة والممارسة أن أفضل استراتيجية يتم تنفيذها لامتصاص وسلب ونهب خيرات الدول هو مبدأ التفتيت.. وعلى العموم، كل من يطبق نهجاً ثابتًا، مسارًا وغايةً وهدفًا يتضمن تمزيق المجتمعات وتجزئتها في كيانات متناحرة متصارعة ومتنازعة؛ فإنه يستطيع استحلاب خيراتها ومواردها ومقدراتها بأيدي أبنائها، ويستطيع أيضًا أن يستغل إمكاناتها البشرية والمادية بدون بذل أي جهد أو استخدام قوة تذكر، ودون أن يتحمل أي أعباء والتزامات اقتصادية، أو سياسية أو حتى أخلاقية.
في عالم اليوم، تسعى(س ع م) بكل ما تملكه من نفوذ إلى تفتيت كل دول العالم التي توجد لها فيها مصلحة، فتقوم بوضع الأزمات والمشاكل المستدامة في هياكلها، وبنيتها سلطةً، ودولةً، وشعباً، وإعادة تشكيلها بما يكفل زعزعة استقرارها على الدوام، خدمةً لمخططاتها وأهدافها، فبعد أن أثبتت التجارب أن الدول المستقرة مهما صغرت، لا بد لها من توجيه مواردها وخيراتها، أو على الأقل جزء منها، في خدمة مجتمعاتها من صحة وتعليم وبنية تحتية وغير ذلك، فإن (س ع م) على ما يبدو، اعتبرت ذلك تبديدًا لثروة كان من المفترض أن تكون في جعبتها وفي خزينتها، ذاك هو التوحش الإمبريالي الجشع لـ(س ع م) بوجهه الحديث الذي أطل على العالم.
الأحداث الساخنة على مستوى العالم توضح أن أي محاولة بناء إمبراطورية عالمية قد تواجه (س ع م)، أو تنافسها على قيادة العالم، هي من كبائر المحرمات التي لن تسمح بها، حتى وإن تطلب الأمر إحراق العالم وفناءه. ومن هنا، ندرك سبب العداء المستحكم بين (س ع م) والإسلام الذي غايته وهدفه الأساسي تكوين أمة إسلامية واحدة متماسكة ومترابطة، ويبين لنا سبب وضع المعوقات والعراقيل التي تمنع تكوّن دولة الأمة الإسلامية، ويفسر لنا أيضًا لماذا يتم وضع العراقيل التي تمنع تكوين الدولة العربية كدولة قومية.. نعايش اليوم، الجهود الخبيثة التي تبذلها (س ع م) لتنفيذ توجهاتها التآمرية الهادفة إلى تفتيت الدول العربية، التي قد جزأتها سابقًا إلى دول قُطرية، وذلك عبر محاولة تفتيتها إلى كيانات أصغر تحت أي مسميات مستحدثة (إقطاعيات، إمارات، مشيخات، سلطنات.. أقاليم…إلخ) ليسهل جعلها جزئيات متناحرة ومتنافسة.. مسعاها هذا، هو نفس وذات المخطط الاستراتيجي الذي تحاول تنفيذه بحذافيره على مستوى العالم أجمع.
لكي تحقق (س ع م) استراتيجية التفتيت التجزيئية للدول، فإنها تنتهج مجموعة من الطرق والوسائل والآليات التي تمكنها أولاً من تحقيق سيطرة دائمة وناعمة، وبتكلفة أقل-إن لم تكن منعدمة التكلفة- من الاستعمار أو التدخل المباشر، وبعد أن تتأكد من أنها قد حققت السيطرة الملائمة تقوم باستكمال عملية التفتيت، متى ما تقتضيه مصالحها.. تلك الطرق والوسائل لها نوعان، الأولى: طرق تقليدية دأبت على استخدامها دومًا، والثانية: طرق حديثة طورتها لتنسجم مع متطلبات الحداثة والتطور في النظم السياسية الدولية، ونوضحهما على النحو التالي:

1-الطرق التقليدية: (الفجر في ساحة الظلم الماكر، تغرب فيه مؤامرة وتشرق أخرى).
باستقراء الوقائع الظاهرة، ومن خلال الفحص والتمعن في الأحداث العالمية التي حدثت في السابق، أو تلك التي تحدث اليوم، يمكننا أن نحدد مجموعة من الطرق التي تنتهجها (س ع م) لتحقيق سيطرتها العالمية وسنوضحها باختصار غير مخل على النحو التالي:

2-الطرق غير التقليدية: (يعيش طويلًا من لا تموت حيلته)
بالاستنباط، ومن خلال التنقيب في وقائع بعض مسارات القضايا الدولية، وبتحليل مآلاتها بشكل عميق وجريء نستطيع التكهن بشيء من اليقين أن (س ع م) تنتهج مجموعة من الطرق المبتكرة لإحكام سيطرتها على العالم والتحكم به، نوضحها باختصار على النحو التالي:

Exit mobile version