دراسات وأبحاث

الحلقة الرابعة: الفجر المظلم

الإرهاصات العامة لزوال إسرائيل وفقا لاستراتيجية السلطة العالمية العميقة (س ع م)

يمثل وجود إسرائيل لـ (س ع م) حجر الزاوية في علاقاتها الدولية، هي تمثل لها نجاحًا تطبيقيًا لسياسة العصا والجزرة وفق قراءتيها، إذ إنها تخدم هيمنتها على المنطقة العربية الغنية بالثروات، والتي تمثل متغيرًا حرجًا وفاعلًا على مستوى العلاقات الدولية ككل.. إن من تحدد المسارات الحالية والمستقبلية للعلاقات الدولية هي الوقائع والأحداث التي يفرزها الصراع العربي الإسرائيلي.. نحن نتحدث عن صراع يمثل محور ارتكاز العلاقات الدولية العالمية، وحاكمًا على كل مساراتها؛ ولكونه مبنيًا ومهيكلًا على ثلاثة متغيرات رئيسية هي: القوى الغربية، وإسرائيل، والمنطقة العربية، فلنا أن نستوعب مدى الإرباك الذي سيحدثه زوال إسرائيل من معادلة الصراع العالمي الحالية، وخاصة ونحن مقبلون على دخول مدخلات جديدة في ميزان قوى الساحة الدولية في ظل الطموح الصيني، والروسي، وبعض الدول الكبرى والإقليمية الأخرى.

لعنة العقد الثامن في مسألة زوال إسرائيل تمثل إطارًا تحليليًا موجهًا للكثير من كتابات الباحثين، والمحللين، المهتمين بالشأن الفلسطيني؛ هي ليست موجودة نصًا في كتب العهد القديم (التوراة) ولا في كتب العهد الجديد (الإنجيل) المتاحة والموجودة حاليًا بين أيدينا، إلا أن ما يؤكد وجود هذه اللعنة هو تحليل الفترات التاريخية السابقة لوجود إسرائيل لقد تحدث عن (لعنة العقد الثامن) وفي أكثر من مناسبة الكثير من حاخامات اليهود أو من القيادات السياسية الإسرائيلية.

ما سبق، أوجد قناعات دامغة في فكر اليهود بحتمية زوال دولتهم، وقد تجذر يقينًا في وعيهم حول اقتراب نهايتها، وأن مآلها ومصيرها إلى دمار مؤكد، ومن البديهي أن يؤدي ذلك إلى استعدادهم نفسيًا ومعنويًا، وماديًا أيضاً لحدوث ذلك الأمر، كونه أضحى من المسلمات لديهم؛ نشرت صحيفة الصنداي تايمز إن عشرات الآلاف من الإسرائيليين يهاجرون ويفكرون في الهجرة إلى الغرب، وقد قامت القناة 13 الصهيونية استطلاعاً خلصت من خلاله إلى أن 28% من الصهاينة يفكرون بالهجر.. ما الأسباب التي تدفعهم للهجرة وما تداعياتها على دولة الاحتلال؟ من المؤكد، أنه حال حدوث أي طارئ يبث الرعب في نفوسهم، أو وقوع أحداث يستشعرون من خلالها أن هناك أدنى خطر يهدد دولتهم، فإن ذلك سيؤدي إلى انهيار سريع في صفوفهم المهترئة عقائديًا، والمتمزقة مجتمعيًا نتيجة العنصرية السائدة داخل إسرائيل، والفزع الشديد الذي سيولّد التخبط والفوضى والعشوائية سيمنعهم من صد أي هجوم أو غزو ضد دولتهم أو حتى مقاومة ذلك، فقد باتت الأرضية في وجدانهم خصبة واستوطنت أنفسهم بأن الأحداث قد آذنت بخراب دولتهم، وأن ساعة نهايتهم قد أزِفت، وحال استشعارهم لأي مؤشر لحدوث ذلك فإنهم سيفرون من فلسطين، كما تفر الجرذان من سفينة غارقة، فالحقيقة المؤكدة أن مصير وجودهم اليوم مرتبط كليا بدعم (س ع م) لهم من جهة، ومن جهة أخرى، لإدراكهم بعدم وجود أي خطر حقيقي يهددهم من حولهم، هم يستشعرون الأمان حتى يحين وقتهم ويدنو أجلهم.

مسألة تحديد الفترة الزمنية لزوال إسرائيل في هذه الدراسة خرجت بنتيجة زمنية مقاربة لما تحدده لعنة العقد الثامن، فافتراض أن زوال إسرائيل أصبح ضرورة حتمية لـ(س ع م) لخلط أوراق الفاعلين الدوليين والإقليميين التي باتت تهدد استمرار هيمنتها وسيطرتها على المنطقة والعالم، ولأن مجريات الأحداث الدولية وتفاعلاتها المتسارعة باتت تهدد بقضم كعكة نفوذ (س ع م) من أطرافها ومن وسطها، فإنها لن تتوانى لحظة واحدة في استغلال إسرائيل بطريقة جديدة ومبتكرة عن طريق استخدامها كفتيل يشعل أزمة جديدة على مستوى الساحة الإقليمية والتي سيكون لها تأثيرها على الساحة الدولية.

ما سبق، لم يعد خيارًا لـ(س ع م) بل أصبحت ضرورة حتمية، وقرارًا مصيريًا يفرض نفسه عليها بقوة لسرعة تنفيذه خلال الفترة القادمة، نحن نتوقعها خلال أعوام قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، هذا ليس تكهنا، إنه منظور علمي لتحليل واقع معاش مدخلاته كاملة وله مخرجاته الواضحة التي تمكننا من استنباط النتائج المتوقعة بدرجة عالية من الموثوقية والموضوعية؛ نحن ندرج استشرافًا مبنيًا على وقائع أضحت مسلمات علمية راسخة، مبنية وفق مسار تحليلي دقيق له وقعٌ وإقناعٌ أكبر من التوقعات الميتافيزيقية المبنية على افتراضات نظرية.

إذًا، سيتوجب على (س ع م) محاولة احتواء هذا الأمر الذي بات خيارًا وحيدًا لإعادة ترتيب العلاقات الدولية و/أو استباقًا لأي إجراءات خطيرة تنوي القيام بها مثل رقمنة الدولار أو إلغائه، بما يكفل لــها استمرار سيطرتها العالمية في زمن تحتد فيه المنافسة والسباق نحو إعادة رسم خارطة الهيمنة والسيطرة على العالم.. إن ذلك يفرض ويوجب عليها كلاعب دولي متفرد ضرورة استراتيجية قبل أن تخرج اللعبة الدولية من يدها تتضمن إعادة رسم الأحداث والمدخلات في المنطقة العربية على وجه الخصوص والإسلامية على وجه العموم، وبما يكفل الاستحكام على متغيرات ومستجدات الأحداث المتوقعة نتيجة زوال إسرائيل، أو على الأقل استغلالها كمرحلة انتقالية، حتى يتم تهيئة البديل الجديد للسيطرة على المنطقة، وبما يكفل السيطرة على العالم والذي يسعى ويطمح إليها من خلال الإمساك بصناعة أشباه الموصلات والسيطرة عليها كخيار استراتيجي بديل للنفط.. ونؤكد هنا، أنه ليس بالضرورة أن تكون كل تلك الأحداث، والإرهاصات التي ذكرناها مترتبة أو متزامنة مع زوال إسرائيل، وإنما ستتم وفقا لما ستفرضها ضرورات البيئة المحيطة لها وبناءً على إمكانية تطبيقها والقدرة على تنفيذها.

وفيما يلي مجموعة من الإرهاصات والنتائج المتوقعة لزوال إسرائيل، وحتى لا يضيع المضمون في المكنون، وحتى لا يتوه المعنى في المبنى، ولتظل الدراسة في مساقها المحدد سنوردها باختصار غير مخل على النحو التالي:

أولاً: على المستوى الإقليمي: (الرسام المبدع يغير مناظر لوحاته)        

في ظل حتمية انهيار استراتيجية (س ع م) التقليدية في المنطقة “زوال اسرائيل” والتي حققت بها، ولأكثر من سبعة عقود، التوازن الذي يخدم توجهاتها ومصالحها في المنطقة والعالم، ولكي تستمر سيطرتها على المنطقة، يجب عليها أولًا معالجة عددٍ من المسائل التي تضمن لها تحقيق اليد العليا في التحكم بمسار الأحداث في المنطقة، إن أفضل الطرق هي الصراع المدمر المبني على الدين، ويؤكده قراءة متمعنة لتاريخ الصراع الدموي العنيف على المستوى العالمي.

في المنطقة بؤر خلاف متجذرة وعميقة بين العديد من الفرق الإسلامية، إلا أن تركيز (س ع م) حصرًا يتضمن الفرقتين ذواتي المنافسة الشديدة واللتان تمثلان أكبر الفرق الإسلامية (السنة والشيعة)، وقد تمكنت في العصر الراهن من إعادة صياغة الخلاف بينهما وتحويله من التقليد الفقهي المذهبي إلى هوية إسلامية تمثل انتماءً مذهبيًا طائفيًا، هوية تصبغ اتباعهما بأحد لونين لا سواهما، إما سني أو شيعي.

إن التحريف الذي نال من الفكر الشيعي المعروف بتحريمه سفك دماء جميع الناس على المطلق، وعلى التخصيص أن يكون ذلك في عامة المسلمين أو خاصتهم، قد ولّد لدى أتباع الفكر الحاليين نزعة دموية يعززها بعض من مرجعياتهم المخترقين من (س ع م) مما جعل من يؤمنون به أكثر فتكًا وعدوانية ضد أهل السنة من المسلمين.. ذلك الفكر الممزوج من مكونين فكريين طائفيين شيعيين له نفثة تنين فالمكون الأول يتركز في العدو المحدد حصرًا وبشكل واضح في عدوين الأول: طارئ وتمثله إسرائيل، والثاني: أزلي وتمثله جميع فرق أهل السنة، الذين يتهمونهم بمناصبة العداء لهم ويُحَمِّلونهم بهتانًا وزورًا وزر قتل آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أما المكون الثاني فيتمثل في خروج المهدي المنتظر، والمشكلة تتمثل في الظروف التي يجب أن تكون مدعاةً وأساسًا لخروجه وسببًا وحيدًا لظهوره، والمتمثلة في ضرورة ظهور الظلم والجور والفسق والفساد والدمار، هذان المكونان (أهل السنة كعدو، وضرورة توفر ظروف خروج المهدي) لن يتحولا إلى مزيج مرعب (نفثة التنين)، إلا حال انتهاء إسرائيل كعدو للشيعة، إذ إنه لن يتبقى إلا عدوهم الأزلي من الفرقة السنية ففي حال تمكنهم من رقابهم، وبحسب عقيدتهم المحرفة لمسألة خروج مهديهم المنتظر التي تتطلب أولًا أن ينتشر الفساد والفسق والقتل والدمار وسيكون إعمال كل ذلك في أهل السنة، وفقًا للشيعة، إنما يستوجبهم كعقاب واقتصاص وثأر من جهة، ومن جهة أخرى سبباً في خروج مهديهم المنتظر.

يمكن السيطرة على الفرقة الشيعية التي تحشد وراءها الملايين من المسلمين من خلال مرجعياتها، هذه أيضًا أكبر الثغرات التي تُمرِر من خلالها (س ع م) الانحرافات والتشوهات الفكرية في الفكر الشيعي، وأيضًا هي من خلالهم ستقوم بتوجيه ملايين الشيعة عندما يحين وقت تنفيذ المؤامرات على الأمة الإسلامية، وذلك لأن التبعية الفكرية والمجتمعية في المذهب الشيعي يكتنفها خضوع تام لمرجعياتهم، ويستحوذ عليها تبعية تقليد أعمى، واقتداء بشكل مطلق؛ فالمرجِع في الفكر الشيعي المُحرّف يتبوأ موقعًا يسمح له في المطلق بأن يكون وسيطًا للعلاقة الروحية بين العبد وربه، وهذا الأمر يعمق من سيطرة المرجعيات الشيعية على أتباعها، والذي يجعل من البديهي أن يكون له دورًا وتأثيرًا سياسيًا على الدولة، فالمرجعيات لهم تأثير سياسي على الظاهر وفي الباطن كونهم نواب عن الإمام الغائب في مسائل العامة، كما أنهم أيضًا يتمتعون بتأثير ديني كمرجعية شرعية دينية كونهم حججًا اجتهادية مطلقة، كما أن تأثيرهم وسيطرتهم السياسية والدينية على أتباعهم عابرة للحدود وتمتد التوجيهات إليهم أينما كانوا وأينما حلوا.

هناك دلائل قوية على توجه مبكر من (س ع م) لدعم الانحراف في الفكر الشيعي، فإيواء كل المغالين والمتطرفين في هذا الفكر في أراضيها، أو استيعاب كبار مراجعهم (دعمًا ماديًا أو معنويًا أو سيطرة أو اختراق استخباري) أو من خلال دمجهم في منظومة العمل السياسي في دولهم كأوراق رابحة في أجندتها التآمرية على الأمة الإسلامية،  والشيعة الذين يتم تهيئتهم للعب دور أساسي في تنفيذ المؤامرة هم شيعة العراق تحديدًا ونظائرهم فلديهم اليوم ميلشياتهم المسلحة بأعتى الأسلحة ولديهم تمثيلهم السياسي في الدولة العراقية الذي بواسطته يمتصون إمكاناتهم الاقتصادية ولديهم مرجعياتهم الدينية التي توفر لهم الغطاء الديني، كما أنهم ينشرون الفسق والفساد والموبقات من مخدرات وقمار وملاهي وبارات وتجارة الجنس ويتعيشون عليها وبها ومنها.

 وهناك مجموعة من الشواهد التي تؤكد أن هناك توجه من (س ع م) لمحاولة استقطاب الشيعة والتأثير عليهم والاستحواذ عليهم فكريا، حيث نلاحظ مؤخرًا بروز حكايات خرافية كأنها حُبِكت في استوديوهات بوليوود على منوال الأفلام الهندية تتحدث عن تَنسيب ملكة بريطانيا بقرابة إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقد رأينا التصريح الغريب للرئيس بايدن الذي يتحدث فيه عن اهتمامه بالمهدي المنتظر والفكر الشيعي، وأنه قد قام بتوظيف بروفيسور متخصص ليتعلم أكثر عن هذا الشأن.

بالعودة إلى إسرائيل كعدو، نجد أنها وضِعَت لتؤدي دور القنبلة الانشطارية في قلب الأمة العربية، والتي أعاقت، وبشكل كبير، من إعادة الوحدة العربية التي تعد أساسًا للحمة الأمة الإسلامية.. بينما نجد أن الفرقة الشيعية المخترقة تعتبرها (س ع م) عدوًا مندمجًا في داخل الإسلام ذاته، وإن كان دورها حاليًا لايزال محدودًا ومحصورًا، ولكون مكنون إسرائيل يحتضر كدولة في قلب شعبها داخليًا، ولكونها خارجيًا صُنعت وُزرعت في المنطقة من أجل أن تبقى على الدوام كعدو، وفزاعة حرب، وهي قد أخلت بذلك بنزوعها نحو السلام ومحاولة التطبيع الذي جعلها تفقد أهم مرتكز لبقائها، لذا فإن محي وجودها من على خارطة العالم سيكون ثمنًا لسعيها خارج دورها المرسوم في المنطقة.. إسرائيل قطعًا في حكم المنتهية وحصادها بات قريبٌ جدًا، ولم تعد تقدر سياسيا واستراتيجيا ومجتمعيا أن تصمد أو تبقى أكثر من عقد من الزمن، كل المؤشرات توضح ذلك.. إذاً، تُدرك (س ع م) جيدًا أنه لا يجب ترك زوال إسرائيل الحتمي دون استغلال، بل يجب أن يستغل لمؤامرة أكبر، عبر صناعة عدو للمنطقة أعظم قوة، وأعلى تأثيرًا وهو عبر تمكين شيعتها المخترقة من السيطرة على المنطقة العربية خاصة وعلى الأمة الإسلامية عامة، السيناريو المُعد لذلك مصاغ بدقة عبر تمكين الشيعة المخترقين دون سواهم، من دحر وسحق إسرائيل وتدميرها تحت مسمى تحرير فلسطين، سيؤدي ذلك إلى إعادة إنتاجهم كـ مُخلّصين أبطالًا حرروا مقدسات الأمة، وكمُخلِصين لمبادئها ثبتوا على الحق حتى تحقيقه.

باختصار، كل ما ستقوم به (س ع م) هو تحويل دمار إسرائيل إلى صاعق يفجر القنبلة الشيعية، لكم أن تتخيلوا تأثير ذلك على المستوى الشعبوي والمجتمعي، وما يمكن أن يؤدي إليه من صعود وبروز للفكر الشيعي المُنحرف؛ ولتشبيه ذلك وتمثيله، نحن نعلم أن القنبلة النووية لها قوة عظيمة وجبارة ومهولة، وانفجار مرعب وتدمير هائل، لكن قوتها الجبارة تلك تتضاءل وتصبح صغيرة إذا ما علمنا أنها ليست سوى فتيل(صاعق) تُستخدم عند القيام بتفجير القنبلة الهيدروجينية، هو ذات الأمر الذي نقصده شرحًا ونلمح إليه جملةً وتفصيلًا، ومماثلةً وتشبيها، فـ(س ع م) ستقوم بتحويل دمار وزوال إسرائيل كعدو في المنطقة إلى فتيل (صاعق) لتمكين عدوًا أكثر خطورة وتأثيرًا، إنها ستمكن الشيعة المخترقة من تحرير فلسطين، وبالتالي فإنها ستجعل من الشيعة المخترقة عدوًا ذا تأثير أكثر خطورة على المسلمين وعلى الإسلام أيضًا، هذا سيكون أكثر فتكًا وتدميرًا وأعظم نتيجةً وأثرًا على المنطقة وعلى الأمة الإسلامية برمتها، وأيضًا هو سيؤدي دورًا خفيًا يتضمن مخطط خبيث يستهدف تحريف الإسلام مكنونًا وجوهرًا، ومن جهة أخرى سيؤدي ذلك إلى القضاء على الشريحة المعتدلة من الشيعة وتحجيم دورهم على الساحة الشيعية.

عرفنا لماذا ترغب (س ع م) في تدمير إسرائيل بيد الشيعة، إنه هدف استراتيجي ستحققه بأيديهم، لكن لذلك أيضًا أهداف فرعية أخرى، حقيقة هي كثيرة، لكن أهمها أن (س ع م) استثمرت مئات المليارات في البنية التحتية لإنشاء إسرائيل وهي جميعها في أراضي فلسطين، ولأنه من غير المعقول، بل وليس من المنطقي أن يقوم أهل فلسطين بتدمير وإهلاك مدنهم وقراهم بعد أن عُمّرت وشُيّدت، فقد ساقها الله تعالى مغنمًا بأيديهم بعد أن كانت تستخدمها ضدهم أيادي أعدائهم، فالعقل والمنطق يدللان على أن الفلسطينيون سيسعون إلى الاستفادة منها والتنعم بوجودها.

وبما أن (س ع م) تسعى ألا يستفيد منها العرب الفلسطينيون، فإنه يجب أن تدمر وألا يبقى لها أثر، لذا لابد من كيان يسحق ويمحق ويدمر وينهي كل تلك البنية التحتية، وخير من يقوم بذلك هم الشيعة المخترقين، فذاك أصبح سلوكًا مغروسًا في جينات معتقدهم المُحرَّف لتمهيد ظهور مهديهم المنتظر، وذاك ما دأبوا على انتهاجه وتدربوا عليه في حملات الحشد الشعبي في العراق، فقد تركوا كل المدن والقرى التي وصلت إليها أياديهم رمادًا وغبارًا، وهذا بالضبط هو التفسير التطبيقي والفعلي لقوله تعالى (وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً) وقاطعًا مانعًا لأي تفسير آخر.

المخطط الخاص بالمنطقة أصبح من الوضوح بحيث يُظهر أن هناك اتجاهًا من (س ع م) لتمكين الشعبوية الشيعية (غير المنتظمة في دولة) على المنطقة خاصة، وعلى الأمة الإسلامية عامة، بحيث تتسبب في حروب غوغائية همجية تؤدي إلى قلاقل وفتن، وتجر وبالًا على المنطقة برمتها، وتمثل مصدر تهديد دائم بيد (س ع م) تدير به المنطقة بالأزمة، كما أن ذلك سيؤدي إلى القضاء أو على الأقل تحجيم كل الفرق الشيعية المعتدلة.

يتطلب إعادة رسم خارطة الصراع في المنطقة وفق مخطط (س ع م) التعامل بشكل غير مباشر مع بعض الدول العربية مثل اليمن والسودان وليبيا والجزائر، ومع بعض الدول الإسلامية الكبيرة مثل باكستان وماليزيا وإندونيسيا، والتي يمكن أن تمثل رافدًا لأي توجه قد يمنع أو يعيق من تشكل الحلف الشيعي، وذلك عبر جعلها تنشغل بمشاكلها الداخلية، وهو ما يحدث في الوقت الراهن لأغلب تلك الدول.. كما يجب، لتنفيذ المخطط المرسوم، التعامل المباشر مع تسع دول في المنطقة، خمس دول منها، يجب التعامل معها كضرورة تكتيكية، تمثل متطلبًا تمهيديًا للأحداث وهي (العراق، سوريا، لبنان، إحدى دول الطوق، الكويت)، والأربع الدول الأخرى، يجب التعامل معها كأهمية استراتيجية تمثل إجراءً وقائيًا وهي (إيران، تركيا، مصر، السعودية).

لا يمكن أن ينفذ المخطط إلا إذا تم إنجاز الضرورة التكتيكية كمتطلب تمهيدي، فتم أولًا إسقاط العراق بيد الفوضى وتمكين القوى الشيعية المخترقة، ومن ثم بدأ تفتيت سوريا كدولة مستقرة لتحييدها ولكي يسهل عبور جحافل الشيعة المخترقة من العراق إلى إسرائيل، كما أن لبنان مهيأ كجبهة حرب شمالية ضد إسرائيل عند بدء أحداث زوالها، أو بالتزامن معها وهذا يتضمن سقوط لبنان بيد حزب الله الذي يمثل مكونًا وكتلة سياسية شيعية صلبة مدعمة بالسلاح، ونشير هنا إلى أن إحدى دول الطوق جزء أصيل من المخطط، فإدخالها كدولة كاملة في هذه المعمعة احتمال وارد جدًا، أما إدخال جزء جغرافي كبير منها فهو يمثل ضرورة حتمية للمخطط، وسيتم تنفيذه بالتأكيد، أما بالنسبة للكويت فسيتم تحييدها مقابل دفعها ثمن اقتصادي باهظ، وسيتم ابتلاع دولة البحرين من مكوناتها الشيعية.

أما فيما يتعلق بإنجاز (س ع م) للأهمية الاستراتيجية (الاحتراز الوقائي)، فمن المُسَلَّمات أن زوال إسرائيل سيُحدث فجوة هائلة ستُربك حسابات كل دول المنطقة، وسيوجِد ثغرة كبيرة في توازنات القوة، وبوجود دول ذات ثقل أقليمي ودولي، ولها طموحات قيادية لتزعم مستقبل المنطقة حال مصر وتركيا وإيران والسعودية، فإن حدثًا كهذا سيخلق فرصة لها، وكونها تمتلك كل مقومات النجاح، فإنها ستعمل على محاولة استغلالها وتبوء مكان قيادي في المنطقة في منافسة قوية جدًا أمام الكيان الشيعي المستحدث الذي سيفتقد كل ذلك.. إذًا، سيتوجب على (س ع م) قبل أو أثناء تنفيذ مخططها الخبيث التعامل بشكل جِدّيِ مع هذه الدول وتحييدها مسبقًا، أو حتى إضعافها وإشغالها بنفسها قبل تنفيذ (أو بالتزامن) مع أحداث زوال إسرائيل.

لا سيناريوهات بديلة من إشغال هذه الدول بنفسها عبر مجموعة من الإجراءات التي يمكن توضيحها على النحو التالي:

1- المملكة العربية السعودية: (الشجرة العظيمة، التي علت، وأورفت، وأثمرت، تموت حتمًا إذا فقدت جذورها).

تمتلك السعودية كدولة كل المقومات المطلوبة لقيادة المنطقة؛ بل والأمة الإسلامية قاطبةً، فهي دولة قوية اقتصاديًا ولديها الاستقرار السياسي المطلوب، وفيها أهم المقدسات الإسلامية.. لديها كدولة ثلاثة مكونات صلبة تعزز من تماسكها، وتمثل مصدرًا عظيمًا لقوتها، اثنان داخليان وواحد خارجي، الداخليان: تماسك مؤسسة السلطة (الأسرة الحاكمة)، والآخر وجود عقيدة دينية جبارة (السلفية) تدعم السلطة وتدافع عنها، أما الخارجي فهو كونها الدولة الأكبر في تصدير النفط في العالم، ومن وراء ذلك هيمنتها شبه الكاملة ونفوذها الكبير على منظمة أوبك، كأكبر تحالف دولي لمصدري النفط في العالم أجمع.

كما أنه يمكن استهدافها كدولة أو استهداف استقرارها على أقل تقدير من خلال الكثير من مكامن الضعف والثغرات الكامنة فيها، ولعل من أهمها: الطائفة الشيعية الموجودة شمالًا (الجعفرية الاثني عشرية)، و(البُهرة) في الجنوب، وفي قراءة المشهد المجتمعي والسياسي لإمكانية قيام (س ع م) باستغلال ذلك، فإنه يتوجب أولًا خلخلة التماسك الداخلي من جهة، ومن جهة أخرى يجب ضمان تدفق النفط حال أي استهداف لاستقرارها، وهذا هو ما يُصعِّب هذه المهمة، على الأقل في الوقت الراهن، إلا أنها ستكون في بؤرة الأحداث الساخنة حال ضمان تدفق النفط لـ(س ع م) أو حال اختلال منظومة البترودولار كانهيار الدولار مثلًا.

مؤخرًا، تم انتهاج سياسة إصلاحية واسعة النطاق، إذ لم تكن لتتقدم السعودية بشكل يسمح لها بدخول القرن الواحد والعشرين، مالم تُحدِث بعضًا من التغييرات الهيكلية والبنيوية في الأُطر المجتمعية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، يتم في الغالب إجراء الإصلاحات الهيكلية بشكل ميسور، لكن مسألة التعرض للأمور البنيوية يظل كإجراء، محفوف بالمخاطر، كونه يتعرض لإحداث تغيير في الجذور العميقة التي ترتكز عليها الدولة، ولكون الإطار الديني السلفي هو الجذر الذي يعد متغيرًا حاكمًا على كل الجذور الأخرى (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية) فإن هناك صعوبة كبيرة، تعيق تقبل المجتمع لأي إصلاحات بنيوية فعالة.

 لقد باتت السعودية أمام معضلة حقيقية تُحتم عليها ما يمكن تمثيله في خيارين: إما الإبحار بسرعة لتلتحق بسفن العالم وتلحقها، وإما إبقاء مرساتها عالقة في قعر الميناء، إن هي تركت الأول فستبقى على اليابسة، في عالم تدار كل أموره من البحر، أما إذا تركت الآخر أبحرت السفينة بلا مرساة وافتقدت الأمان، ولن تستطيع أن ترسو على أي بر عندما تحتاج ذلك.. لا شك ولا جدال أن المتدينين والعقائديين هم مرساة سفينة الدولة، لذا فمن المؤكد أننا لا ندعو لقطع تلك المرساة، إلا أننا نؤكد أيضًا أن إعطاءهم حجمًا مجتمعيًا غير ما ينبغي لهم أن يمثلوه، أو وظيفة اجتماعية أكثر مما يجب أن تُناط بهم، أو دورًا فكريًا وثقافيًا غير ما هو مرسوم لهم، أو مكانًا في الدولة غير موقعهم الديني الذي يجب أن يكونوا فيه، فإنهم غالبًا سيقودون السفينة إلى القاع، أو على الأقل، حتمًا يقينًا ومؤكدًا سيبقونها راكدة على رصيف الميناء.

في الوقت الراهن، تُسابق السعودية الزمن عبر قيامها بإصلاحات عميقة وجدية لجعل سفينتها تتقدم وتخوض غمار المنافسة العالمية المحتدمة، ذاك هو تنفيذ صحيح لقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ سورة البقرة الآية 30، لكننا نحذر هنا أنها إن خرجت عن مسارها فإنها ستقطع حبل المرساة، بل وحبال الأشرعة أيضًا في زمنٍ يتوقع فيه أن تبحر سفينتها بين موج عجّاج، وتلوح في أفق دربها الأعاصير، وهي ستخوض عما قريب جدًا عاصفة عاتية هوجاء (أحداث زوال إسرائيل، وتبخر ادخاراتها من الدولار الأمريكي).

فيما مثلناه بالسفينة، نقصد في مُجمل ما لمَّحنا إليه، أنه لن يحمي الدولة والنظام السياسي إلا من له عقيدة راسخة ويؤمن بأنه يدافع عن دينه أو معتقده، أما غير أولئك فلا يجب التعويل عليهم، ولا يصح أن يُعتد بهم، بل ومن غير الحكمة الاعتماد عليهم؛ لقد رأينا دولًا وأنظمة سياسية عتيقة بجيوش ومؤسسات أمنية مستحكمة سقطت أمام حفنة من العقائديين، بغض النظر عن صحة معتقدهم أو بطلانه.. أنا أعتقد أن التلميح في هذا الموضع أشد بيانًا من التصريح. 

في ظل تكريس الدولة القومية في المنطقة، وتعميق الانتماء إليها دون الأمة العربية والإسلامية، والذي ترتب عليه انتهاج مبدأ الربح والخسارة لتقييم العلاقات والمصالح بين الأشقاء والإخوة في بلدان الدول العربية والإسلامية؛ فإن المخاطر القادمة ضد السعودية أرضًا، ومجتمعًا، ونظامًا سياسيًا قد تمت حباكة مؤامرتها منذ عقود، لقد بدأت اليوم تتجلى إرهاصاتها ماثلة بوضوح تام، باختصار، هي اليوم أضحت بين فكي كماشة، وستكتشف عاجلًا، أو على المدى القريب جدًا أن كل محاولاتها الحثيثة لتصفير مشاكلها تصطدم بسقف عقائد من يناصبونها العداء الذي لا يمكن تجاوزه بل ويستحيل تبديله أو تغيير قناعاته.. وإذ يشعر مجتمعها الصلب (العقائديون السلفيون) بالأسى وهم يشاهدونها اليوم تحاول السير في ركب التغيير بلا حذر أو احتراز من المخاطر، مُستلحِفةً حُسن النية مع بعض جيرانها، ومُضحيةً بهم، وهم الدرع الثمين والمتين للدولة، والذي إن جَدّ وقتُ الجِدِ، لن يحميها ويدعم بقاءها باذلًا حياته سواهم.

خطورة التحول الجذري لأي نظام ينتهج عملية الإصلاح، هو مبدأ الصدمة التي تنتج عن محاولة إحداث تغيير حاد في القيم، تلك الخطورة تتراكم عندما تقترن بخشونة في الممارسات السلطوية لتنفيذ ذلك، وكل ما سبق يؤدي إلى تعزيز روافد الاغتراب السياسي لدى شرائح واسعة من الشعب.. لذلك يجب الحذر، فالاستعجال والتضحية بالقيم من أجل إحداث التطور المطلوب له تكلفة مجتمعية عالية، وله آثار يصعب إصلاحها أو العودة عنها، كما أن انتهاج مبدأ التغيير الجذري لتحقيق أهداف يمكن أن يقوم بها التغير التدريجي يُصعِّب من استيعاب المجتمع لغاية التغيير الحقيقية، ويُضعّف من إدراكه للفائدة المرجوة منه؛ كما أنه يُحدث خلخلة بنيوية اجتماعية تخلخل تماسك المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى يُدمر الانسجام المجتمعي مع السلطة، ويقتل الولاء لها.. وكل ما سبق يؤثر سلبًا على مبدأ الانتماء الوطني والذي يعد جوهر بقاء وأس تكوين الدولة؛ عندئذ، تصبح السلطة السياسية، ومن خلفها الدولة، تحت تهديد المجتمع جديًا، فالمجتمع يصبح مُقسمًا ما بين أعداء يتربصون بالسلطة السياسية لاستغلال أي نقطة ضعف فيها للانقضاض عليها، وما بين قوى طامعة تتحين الفرص أو تنتظر أي دعم لها لتحقيق غايتها، وما بين أتباع مقهورين سيتخذون وضع السكوت بشماتة دون أي ردة فعل، أما حماة الدولة الناقمون على النظام (جيوش ومؤسسات أمنية ومدنية) فسيتفرجون على سقوط النظام دون أن يدافعوا عنه، هذه خلاصة تاريخية لكل انهيار الدول وسقوطها.

استخلاصًا مما سبق، وهي هنا كخلاصة مُعبرة عما نريد إيصاله، وتوضيحًا مطلوبًا بإلحاح شديد، وحرصًا منا، وبراءةً للذمة أمام الله تعالى، نوردها في هذا التشبيه:

وضع الله تعالى للأسد هيبةً في هيئته، ومن زئيره منحه المهابة، لكنهما (الهيبة والمهابة) إنما تُستجلبان وتُستمدان من قوته الفعلية التي تكمن في حقيقة ما يمكن أن تحدثه أنيابه الفتاكة، ومن مُسلَّمة التمزيق الذي قد تصنعه مخالبه الحادة، فإن اقتلعها سعيًا في تحسين شكله ومظهره في أدغال موحشة، وغابة متوحشة، فإن مظهره وهيئته لن ينفعاه وسيصبح حتمًا فريسةً للضباع، وإن هز زئيره سكون الأدغال.

2- جمهورية مصر العربية: (المستقبل العظيم لا يُجتر من التاريخ؛ بل يُصنع من عمل الحاضر)  

أثبتت الأحداث قوة الدولة المصرية العميقة، التي استطاعت بخبرة ومهارة تحييد الكثير من المخاطر والمؤامرات الداخلية الكبيرة، وطالما ظلت الدولة مسنودة بجيش متماسك وقوي وفيها قيادة كفؤة ومخلصة تدرك كل المخاطر التي تحدق بالدولة والمجتمع، فإن هناك استحالة لتفتيت مصر أو تنفيذ أي مغامرة دولية أو داخلية تجاهها.. على المدى المنظور، لن تؤدي كل المؤامرات التي تُحاك على مصر إلى بروز كتلة معارضة متماسكة أمامها، كما أن أي أحداث مجتمعية، أو شعبوية مناهضة للحكم والسلطة السياسية من داخل مصر، لن تفتأ أن تنتهي بلا أضرار حقيقية على وجود الدولة؛ هي ستكون كانفجار بالون تتعافى منه سريعًا، حتى إن تم دعمها من (س ع م) أو جاءت تلقائيًا نتيجة الأوضاع الاقتصادية أو السياسية.

إن اختلاق أحداث جسيمة، أو أضرار تقوض استقرار مصر، أو تشغلها بنفسها من خارج حدودها الجغرافية، كمحاولة إدخالها في خلافات إقليمية مع جيرانها، أو من خلال تسلل الجماعات الإرهابية والتخريبية داخل حدودها، لن يكتب لها النجاح في ظل قوة وصلابة جيشها ومتانة وقدرة مؤسساتها الأمنية، وتماسك وتلاحم مجتمعها، وحنكة وحكمة قيادتها السياسية.. لذلك فإن الطوفان الشيعي الذي ستسمح له (س ع م) باكتساح إسرائيل بغرض إعادة رسم خارطة الصراع في المنطقة والعالم، سيفشل حتمًا في تحقيق أهدافه إن واجه دولة بحجم مصر التي ستكون قادرة على سحقه ومجابهته بعنف وبمستوى عالٍ من النجاح.

 إذًا، وكما هو معهود من (س ع م) عند استهدافها للدول، ستقوم أولًا بالعمل على محاولة خلخلة التماسك المجتمعي وضرب البنية الاجتماعية، وأقصر الطرق التي تستخدمها لذلك هو استهداف اقتصاد الدولة المستهدفة الذي له انعكاسات سلبية على جميع المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية، إلا أنه يؤتي ثماره على المستوى المتوسط والطويل، وفي حالات محدودة على المستوى القصير، ومصر حاليًا ليست من ضمنها.. لا بد من طريقة تلبي احتياج (س ع م) وتختصر الزمن خلال فترة قصيرة جدًا؛ وهنا فإن أفضل الطرق وأقصرها لتنفيذ المخطط هي إيجاد كارثة كبيرة جدًا تختصر الزمن وتجلب معها كل الأزمات المطلوبة لمصر، إنها تطبخ لمصر ويتم العمل عليها منذ عقود، فمن خلال قراءة المدخلات المتعلقة ببناء سد النهضة في أثيوبيا والذي يتلقى دعمًا ماليًا هائلًا لبنائه، ودعمًا سياسيًا لاستكمال ملئه والذي جعل أثيوبيا لا تكترث لأي تفاهمات مع دول مجرى النيل (مصر والسودان)، وأيضًا بالنظر إلى موقع إقامة السد على حدود السودان وأثيوبيا، فإن ذلك يعد مؤشرًا على أن الغرض الحقيقي من بناء السد إنما هو استهداف الأمن القومي للسودان ومصر سلمًا عبر حجز المياه، أو كسلاح دمار شامل حربًا عبر انهياره.. باختصار، سد النهضة إن انهار فسيغرق مصر بالمياه والكوارث معًا، وسيربك الدولة تمامًا ويشغلها بنفسها لأعوام كثيرة قبل أن تستعيد توازنها.. مثل هذا الأمر إن حدث، له تبعات كارثية بكل ما في الكلمة من معنى، فله آثار ونتائج ستفوق إمكانيات السلطة والدولة والمجتمع، ما سيضع مصر أمام محنة عظيمة (جنبها الله إياها) تجعلها خارج سياق الاتزان مما يسهل من ابتلاعها، أو على الأقل تشتيتها لإعاقة تبوئها موقعا يعيد لها مكانتها الطبيعية بعد زوال إسرائيل.

(س ع م) تُدرك أن تحييد مصر عن الأحداث المرسومة هو أحد أهم مرتكزات نجاحها، لذا فإن المخطط ضد مصر سيكون كبيرًا بحجمها، فالشعب المصري العظيم لديه من الوعي ما يجعله يدرك أبعاد المؤامرة، وإن تم تركه دون إشغاله بما هو أعظم منها فسيتصدى للمؤامرة بقوة وحزم، فالقضية الفلسطينية هي الهم الأول في وجدانه.

ما أخشاه، هو أن يتم استغلال التحرك الشيعي المرسوم من (س ع م) لتحرير فلسطين لاستدراج الوعي الشعبي في مصر نحو الفكر الشيعي المنحرف، وخاصةً وأن مصر تزخر بتاريخ اجتماعي من التعاطف مع ما يسمى بالأولياء، كما أنها كانت منبعًا ومرتكزًا لأحد أهم دول التشيع الإسلامي (الدولة الفاطمية)، وفيها اليوم انتشار ملفت للحركات الصوفية.

 فعندما نشاهد تحريك الجيوب والأدوات التي تخدم تحول مصر المذهبي والطائفي بصور متنوعة ومنمقة وبأشكال مدروسة ومحبوكة؛ فإن ذلك يضع أمامنا أن أوان المؤامرة قد ابتدأ، وأكثر الخوف من أن يكون مخطط المؤامرة لمصر العظيمة أكبر وذلك بأن تمزق لتبتلعها أفواه التفتيت باستغلال التنوع الديني الموجود فيها، لتسهيل أن يغشاها سواد التشيع المُنحرِف.

3- الجمهورية التركية: (من لا يصنع للسلم وللحرب كل ما يصنعه منافسوه، إنما يبني إمبراطوريته في الوهم)

لتركيا إرث حضاري سياسي واقتصادي كبير، فقد كانت من خلال الإمبراطورية العثمانية أعظم قوة عالمية لقرون من الزمن؛ في الوقت الراهن تسعى تركيا إلى استعادة أمجادها الغابرة من خلال التحول إلى قوة إقليمية ودولية عظمى، فهي اليوم قوة فاعلة ومؤثرة في أكبر حلف استراتيجي عسكري (حلف الناتو) كونها تمتلك ثاني أكبر جيش في الحلف كما أن لها ثقلها العسكري عالميًا أيضًا.. وفي الآونة الأخيرة، تتسارع جهود تركيا في تحديث وتوطين صناعة ترسانتها العسكرية، إلى جانب أنها دشنت بناء المفاعلات النووية، والتنقيب عن الثروات النفطية، والغازية، وإعادة هيكلة كل الصناعات الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، وأيضا اهتمت بتطوير صناعاتها في الجانب التقني، وكذلك لديها بصمتها الوطنية في صناعات الجانب المدني، أضف إلى ذلك بروزها كلاعب إقليمي جريء وفاعل يتدخل لنصرة حلفائه، فقد ساهمت تركيا إلى حد كبير في ميلان كفة الحرب لصالح حليفتها أذربيجان أثناء حربها مع أرمينيا.. لقد أصبحت تركيا اليوم تملك قرارها السياسي والعسكري المستقل عن الغرب بشكل أكبر مما مضى، الأمر الذي مكنها من لعب دورًا دوليًا مؤثرًا ومحوريًا في مسار الأحلاف العالمية، وقد برز ذلك بشكل واضح خلال الحرب الروسية الأوكرانية.. تلك مقدمة مختصرة توضح استعدادًا قويًا لخروج العفريت التركي من القمقم الذي سجن فيه منذ مؤامرة معاهدة لوزان 1923م.

أدت محاولات (س ع م) المتكررة لوأد تحول لتركيا إلى دولة عظمى إلى مجموعة من الانقلابات العسكرية، تُقاد كلها من موقع نفوذ (س ع م) داخل تركيا (الدولة التركية العميقة)، وكلها كانت تستهدف تثبيت العلمانية كهوية سياسية كمحور هيكلي للدولة التركية عبر إعادة فرضها كل فترة كـنظام جامع للشعب والمجتمع التركي.. إلا أن بقاء المحور البنيوي خارج السيطرة المتمثل في الإسلام كعقيدة روحية لدى الشعب التركي وهو الذي يتعارض مع الهوية السياسية مما يجعله يعمل كمرتكز جذري صلب ومتجدد يُعيد تركيا إلى أصلها الإسلامي، ويُمكنها من أن تستعيد عافيتها سريعا في كل مرة.

لقد أدركت (س ع م)، منذ وقت مبكر، ضرورة تحديث أسلوبها في تحريك القلاقل وخلق الأزمات داخل تركيا لضمان السيطرة على تركيا من خلال خلق، أو استغلال أو دعم كيان، يضمن لها السيطرة على العقيدة في تركيا، لذلك قامت بتبني حركة غولن، ومن ثم قامت بتهجين الدولة التركية العميقة (الجيش) بهذه الحركة كمتغير جديد يضمن لها السيطرة على الهوية والعقيدة التركية في آن واحد.. ولضمان السيطرة الكاملة على الدولة تضمنت الاستراتيجية القيام بالسيطرة على باقي مكوناتها السلطوية، فتم إيصال الإسلاميين أولًا إلى السلطة ومن ثم استخدامهم كمطية لتمرير المخطط بهدوء دون لفت الأنظار، وهو ما حدث، فعندما تحالفت حركة غولن مع حزب العدالة والتنمية المحافظ؛ تعاظم تأثير حركة غولن على قوات الشرطة والنظام القضائي خلال فترة التحالف، فقد تساهل رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان مع تبوء أتباع غولن مناصب عديدة داخل الحكومة التركية، إن ذلك كان المسعى والغاية النهائية للمخطط الاستراتيجي لـ(س ع م)، الذي يكفل لها وضع تركيا تحت الوصاية والنفوذ لعقود طويلة.

كشفت عوامل عديدة عن خطورة حركة غولن، فأدركت السلطة في تركيا ممثلة بحزب العدالة والتنمية أنها تسير إلى حتفها وتسحب معها مستقبل تركيا كدولة، فانفض التحالف بين حركة غولن وحزب العدالة والتنمية، وبوجود قائد فذ مثل أردوغان مع وجود اصطفاف شعبي واسع النطاق معه، تم احباط أقوى تلك المؤامرات المتمثلة في محاولة تنفيذ انقلاب قام بها بعض من قادة الجيش التركي المدعومين من حركة غولن في العام 2016م، وبعد أن تم إفشال الانقلاب تم ملاحقة أعضاء حركة غولن ومعهم الكثير من منتسبي الدولة العميقة في كل القطاعات العسكرية والأمنية والقضائية والمدنية، لقد ضرب أردوغان أكثر من عصفور بحجر واحدة، فقد أضعف وحجّم الدولة التركية العميقة التي كانت(س ع م) تراهن عليها لتنفيذ مخططاتها في كل مرة، ودمر أيضا الكيان الموازي (حركة غولن) الذي خلقته(س ع م)، كما شل يد اللعبة الدولية في الداخل التركي باحترافية كبيرة، وهدّم الدعم الخارجي الذي تتلقاه المعارضة من (س ع م)، وفي ذات الوقت عزز وجود حزبه في مفاصل الدولة والمجتمع.

على المستوى المنظور، أو في المستقبل القريب، ستظل (س ع م) تدعم بكل ثقلها أي محاولات لقلب نظام الحكم في تركيا، سواء أكان ذلك عسكريا عبر دعم الانقلابات العسكرية، أو سياسيا بإعادة رسم المشهد السياسي عبر دعم المعارضة.. في الوقت الراهن، تنفيذ أي مخطط للانقلاب على السلطة عسكريا في تركيا يُعد نوعًا ما، مغامرة غير محسوبة النتائج نظرًا لتنامي الوعي المجتمعي التركي، المصحوب بالطموح الاستراتيجي لبعض النخب التركية الفاعلة، واللذان قد أسسا منظومة متماسكة باتت تضع عراقيل حقيقية ومتينة أمام كل مخططات التآمر لإسقاط تركيا بالانقلابات العسكرية. ذلك يعني أن مراهنات (س ع م) على الدولة التركية العميقة لقلب نظام الحكم بالقوة الخشنة(الجيش) أصبحت حلمًا لا يمكن تحقيقه بعد أن قُطّعت أذرعها في الجيش التركي، والذي كان يمثل جل قوتها ومصدر سيطرتها ونفوذها، لذا لم يعد أمامها سوى استخدام كل ثقلها في قلب الطاولة السلطوية بالقوة الناعمة(السياسة)، وبالتالي سنشاهدها تستجمع كل قوتها في ميدان العمل السياسي عبر توحيد المعارضة لكبح جماح حزب العدالة والتنمية، أو عبر الانتخابات بتقديمها كل الدعم الذي قد يسهل لحلفائها السياسيين الفوز فيها بكل السبل والطرق وقد شاهدنا ذلك ماثلًا أمامنا في انتخابات 2023م البرلمانية والرئاسية، وفي أخطر توجه قد يتم انتهاجه من(س ع م) هو استغلال الانتخابات- كفرصة ذهبية- لشحن الأجواء الشعبية المتوترة التي تتسبب بها-عادةً-أجواء المنافسة الانتخابية وذلك لتعزيز الانقسامات السياسية ونقلها إلى تباينات إيديولوجية مستدامة على أساس مجتمعي، ومن ثم دفعها عندما تحين الفرصة لإشعال الشارع وتأجيجه لإحداث انقسامات أكثر عمقًا وأكثر شدة، مثل العنصرية والمناطقية والعرقية وغيرها، والتي إن نجحت فإن لها فعلًا وتأثيرًا على حاضر تركيا ومستقبلها بشكل أكثر خطورة مما قد تحدثه الانقلابات العسكرية. هذه الخطوة إن تمت، لا قدر الله تعالى، فإنها ستُدخل تركيا في حرب أهلية مدمرة، أو على الأقل صراع داخلي يُقطّع أوصال الدولة التركية، ويتلف كل إنجازاتها التنموية والاقتصادية، ويلحق ضررًا كبيرًا ببنيتها التحتية، إلا أننا نرجح أن مثل هذا السيناريو لن يحدث إلا كملاذ أخير، وغير مفضل لـ (س ع م) على الأقل خلال هذه الفترة، كونها تحتاج تركيا القوية التي تخدمها عسكريا في إطار حلف الناتو، شرط أن تكون تحت سيطرتها.

إن لم تستطع (س ع م) تطويع تركيا، أو السيطرة عليها، فهي لن تقف متفرجة على ضياع جهود قرن من الدهر بذلتها في سبيل إضعاف تركيا وتعميق السيطرة عليها، والتي باتت تتلاشى مؤخرا.. (س ع م) لم تفرغ كل ما في جعبتها من المؤامرات فلديها أوراقها الأخرى فتركيا كدولة تظل فيها الكثير من مكامن الضعف الخطيرة على المستوى الداخلي، وعلى وجه الخصوص الأكراد والشيعة، إلا أنه من الصعب تحريكهم كأخطار فاعلة أو مؤثرة على تركيا في ظل سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة، أما على المستوى الخارجي فنجد الأخطار والمؤامرات محيطة بتركيا من كل الجهات تقريبًا (أرمينيا، العراق، إيران، سوريا، وأهمها اليونان)، ومحاولة (س ع م) تفعيل التهديد الخارجي يعد أمرًا في غاية الحساسية والدقة، إذ يتطلب ذلك أن يتم التخطيط له بعناية حتي لا يحدث أي تكتل دفاعي شعبي أو يتسبب في اندماج مجتمعي احترازي مضاد له، فعندما تصيب أي أمة أخطار خارجية فهي تعمل على توحيدها وتزيد من تماسك مكوناتها وطوائفها، كما أن أي فشل في ذلك سيخلق فرصة جديدة للنظام الحاكم في التخلص من بواقي شوائب الدولة التركية العميقة وخصوصًا تلك العالقة في النظام الحزبي والسياسي.

لذا، نتوقع أنه حال فشل إشعال كوارث وأزمات تركيا من الداخل فإنه سيتم تفعيل الأخطار الخارجية ضد تركيا، وبشكل مفاجئ، وصاعق وسريع، من جهة، ومن جهة أخرى بشكل شامل وواسع النطاق حتى يحدث الارتباك المطلوب، والذي بدوره سيسمح بتشتيت جهود النظام الحاكم في تركيا ويُسّهل في ذات الوقت تنفيذ خطط (س ع م) الموجهة نحو تحريك أوراق نقاط الضعف الداخلية مع الأخطار الخارجية تزامنًا، وتخديمًا لوجستيًا.

من المرجح، حال استهداف تركيا من خارج حدودها أنه سيتم العمل على تطويقها من أربع جهات رئيسية هي الشمال الغربي عبر اليونان، ومن الجنوب عبر سوريا ومن الجنوب الشرقي عبر العراق، ومن الشرق عبر إيران، وسيكون من اليونان عبر استثارة تركيا بأي شكل، وبما يسمح بإشعال معركة معها (اليونان مرغمة على ذلك في ظل انهيار اقتصادها شبه التام)، ونتوقع أن الشرارة الأولى للحرب ستكون من تحرشات سياسية ومغامرات يونانية مدروسة، وبالاعتماد على التفوق العسكري التركي مصحوبا بعقيدة التفوق التاريخي فإن دخول تركيا الحرب معها سيكون كاستجابة سلطوية وعسكرية، وبالمزامنة معها أو يسبقها، ستكون هناك محاولة شيعية كردية متحالفة تنطلق من خلالها جموع الشيعة خارج أطرها السياسية (مجاميع طائفية تتبع الشيعة المخترقة) من العراق وإيران وقد يكون ذلك في خضم النشوة الشيعية تدميرهم إسرائيل وتحرير بيت المقدس.. وفي ظل وعود بدعم الدولة الكردية ودعم الدولة الشيعية حال نشوئهما فإن تلك الأحداث ستكون بالتعاون مع الأكراد العراقيين والسوريين والإيرانيين… المؤامرة ضد تركيا نسجت خيوطها منذ وقت مبكر، ويحاك رداءها اليوم على عَجل، لكن تفاصيلها أضحت واضحة بينة، وتبقى تنفيذها فقط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى