استحقاق تجدد الثورة اليمنية الكبرى ٢٦ سبتمبر

ثار اليمنيون ضد الاستعمار والاستبداد بثورتين تحمل هدفًا واحدًا كمرتكز ثابت يتفرع منه أهداف تفصيلية: التحرر من الأغلال والظلم، ونيل الحرية والكرامة والاستقلال؛ حدث الانفجار الاجتماعي الصائب، في فجر يوم كانت شمسه الحرية قبل النجم الشمسي؛ فهز أركان النظام الإمامي الكهنوتي الجائر، وقضى على دياجير ظلمه وظلامه مع نظيره من قوى الاستعمار البغيض؛ وأسس لنظام جمهوري بما يحمله المسمى من أبعاد ودلالات.

فالثورة اليمنية الباسلة لم تكن ظاهرة تاريخية حتمية فحسب؛ بل طوفان شعبي قهر التعقيدات الديمغرافية والصعوبات المتراكمة، والحال الصعب، والشقاء الجاثم؛ وانطلق ثائرًا متأثرًا بمجموعة متشابكة من العوامل، أسهمت في صنع المجد والتأريخ بأرواح ودماء الأبطال؛ لنتأمل فيها كدوافع إذكاء جذوة البركان وانطلاق حممه.

لعل أبرزها: حجم الظلم الاجتماعي والاقتصادي؛ المتمثل بالتفاوت الطبقي بما شكله من فجوة شاسعة بين الأئمة وعُمَّالهم “ولاتهم” وعكفتهم “عساكرهم” وأذيالهم وبين أبناء الشعب العظيم، واحتكار النفوذ والثروة والجبايات وبيت المال؛ بجانب الاستغلال والاستعباد، وتحويل الشعب إلى سخرة بأيدي البغاة والظالمين؛ مع انتشار الفقر والجوع؛ بجانب الحجم الاستبدادي والقمع السياسي، وحجب الحريات الأساسية، ومصادرة الأملاك العامة والخاصة، وسرقة أموال الشعب ومدخراته بمبررات عدة، مع ترسيخ الجهل والخرافات والشعوذة المنظمة والأساطير الداجلة؛ علاوة على الفساد المالي والأخلاقي معًا، وعزل الشعب كليًا عن الإقليم والعالم.

فكان السائد حينها التمييز الديني والمناطقي والعرقي، والركود الاقتصادي، وقمع الحريات السياسية والمدنية، ومنع التعبير عن الرأي والتظاهر أو المطالبة بالحقوق، وغياب تام للمشاركة السياسية في إدارة شؤون الناس، بل وصل الأمر بالأئمة للتأله الفرعوني “ما أريكم إلا ما أرى”، والتحدث المطلق زورًا، نيابة عن الله ورسوله الكريم، وحصر التعليم والقضاء في سلالة رسية دخيلة؛ وانحسار العلاقات الدولية على بلاد الحرمين وروما وفارس.

ذلك وغيره من أساليب ووسائل وأنواع الظلم والطغيان والبغي والغي والاستبداد كان مرفوضًا من قبل الشعب اليمني، وعندما طفح الكيل ونفد الصبر قام الشعب بثورته المباركة في إطار أهداف ستة كأركان الإيمان، مستمدة من الشرع السماوي والعرف الإنساني؛ ناشدًا بها الحرية والانعتاق؛ آملا بناء دولة الدستور والقانون؛ وترسيخ نظام جمهوري عادل تتحقق فيه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والشراكة الوطنية في صنع الحاضر والمستقبل، مهما كلف ذلك من ثمن.

مرت الثورة بأطوار؛ ونضجت تمامًا وتحققت أهدافها في عهد الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح، ومر اليمن في عهده بعصر ذهبي؛ استمتع الشعب فيه بقدر كبير ومُرْضِي من الأمن والأمان والتنمية والتقدم والاستقرار والازدهار والانفتاح على العالم، وتسامت مكانة اليمن في نطاق الأسرتين العربية والدولية، واستطاع النظام الجمهوري أن يسطع نوره في البسيطة كأنموذج زاهر، وتوسع نطاق الصناعة والزراعة والتعليم الأساسي والمتوسط والعالي، ونال الشعب بغيته وحقق طموحه وآماله.

هذا لم يعجب القوى الظلامية في الداخل والخارج، فبدأت بتبني حركات وتنظيمات دينية متلونة، استخدمت الدين ونخرت في أوساط الشعب، واستغلت المناخ الديموقراطي والزخم التنموي والتنوع الثقافي، وتغلغلت في السلطة، وبدأت مشروعها التخريبي تارة بتكفير النظام وتشكيل عصابات إرهابية تستهدف مؤسسات الدولة، وتارة عبر أحزابهم التي يتغطون بها لتحقيق مآربهم في تخريب منظومة النظام- الذي صاروا رسميًا جزءًا منه- من الداخل، وتارة أخرى بدهاليز السفارات الأجنبية، عارضين لهم التبعية والخدمات غير الوطنية، وأخرى بإنشاء منظمات وهيئات وشركات تهدف لقلب الحقائق وتظليل الرأي العام وجمع المال ونشر الشائعات وتفتيت المجتمع وتشطيره…

وها نحن اليوم نعيش واقع مشابه لما كان قبل ٢٦ سبتمبر كنتاج لنكبة فبراير ٢٠١١م، ونرى مليشيات انقلبت على أهداف الثورة السبتمبرية الأكتوبرية والنظام الجمهوري، وانقسامات سياسية عميقة ناتجة عن التدخل الخارجي، وفساد مستشري داخل منظومة الشرعية، وتغول للتطرف والإرهاب، ودعوات علنية للتشظي الجغرافي والنيل من وحدة الشعب أرضًا وإنسانًا.

ذلك ما يستدعي صقل أهداف ثورتنا المباركة، وإعادة قراءة جوهرها والتأمل فيها والتفاعل مع مضمونها، وإذكاء شعلة الثورة من جديد، لتوقيف القوى الظلامية عند حدها، والانتصار لإرادة الشعب كاستحقاق وطني لازم وضروري وحتمي لا مناص منه قَرُبَ الزمان أو بَعُد.. فشعلة الثورة لا تنطفئ، ومنارتها لا يحجبها الدخان والضباب، ولا تؤثر في نتائجها المؤامرات والمكائد والاستهداف؛ لأنها روح الشعب ومستقبل الأجيال.

Exit mobile version