
د/ طه حسين الهمداني
لعبت الجامعات عبر التاريخ دورًا بارزا في أن تعبر عن ضمير الأمة والنهوض بها، وتحدي الظلم وفكر التخلف، ورفع درجة الوعي، وتوجيه بوصلة العمل بكافة جوانبه السياسي والإداري والاقتصادي، ولتشكل رافعة مهمة في التغيير وتحقيق التقدم العلمي وصياغة رؤى وطنية، تمثل الحداثة والتأثير المجتمعي.
ولأن القائمين على هذه الجامعات في الغالب أكاديميين ومدرسين حققوا درجة عاليه من النضج وطلبة في فورة الشباب والحماسة وأكثر تفاعلا مع المحيط مما يدفعهم للتعبير عن أفكارهم وما يؤمنون به وعن طموحاتهم المستقبلية، بعيدًا عن التخندق خلف الأيديولوجيات أو العصبية السياسية أو الجهوية الجغرافية، وبما يجعلها اكثر التزاما بالقضايا الإنسانية والقضايا العادلة التي تهم المجتمع والأمة.
وهنا تبرز مسائل الحريات العامة والحقوق والعدالة والمساواة كأهم مرتكزات الحياة التي يجب التعاطي معها وعدم اغفالها والدفاع عنها بكل الوسائل.
وفي التاريخ أمثلة كثيرة عما حققه الشباب في مناهضة الاستعمار والوقوف بوجه آلة القمع والدفاع عن مصالح الأوطان ومساندة القضايا العادلة، وممارسة الضغوط للتصدي لبعض الظواهر السلبية في المجتمع.
كما عرف عن أساتذة الجامعات بأنهم الأكثر وعيًا من غيرهم بحكم عمق المعرفة، والتجارب والتفاعل مع القضايا بصدق وحزم باعتبارها مسؤولية أخلاقية قبل كل شيء، كما أنها تنطلق من المنهج الذي يدرسونه، والذي يسعى لتحقيق قيم المساواة والعدالة الاجتماعية، وعدم مصادرة حق الآخر لأي سبب.
واليوم ما تتعرض له القضية الفلسطينية وعمليات الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أبناء غزة، وفرض النزوح القسري عليهم مثلت مواد قضايا اختبار التي من خلالها تحرك الأفراد وكثير من الكيانات والمراكز التعليمية وعبروا بصوت مرتفع عن عدم رضاهم عما تقوم به إسرائيل والتواطؤ معها من قبل الإدارة الأمريكية، والدعم الواضح الذي يدفع ثمنه المواطن الأمريكي.
بالمقابل من الطبيعي أن نتساءل عن الجانب العربي في هذا الإطار وما الذي أفقد المراكز والجامعات الحضور والتفاعل مع ما يجري في فلسطين باستثناءات محدودة، رغم مرور ستة أشهر على الحرب التي يشنها الكيان الصهيوني بوحشية رداً على طوفان الأقصى.
لقد غاب دور الجامعات العربية بالتحديد، وكذلك دور النخب العلمية والنقابات المهنية والمنظمات الحقوقية العربية، وهذا يعكس حالة التباين بين بعض الكيانات العربية والأنظمة، وما أفرزه الربيع العربي من انفصام حتى لدى الفصائل الفلسطينية نفسها، ومحاولة استغلال بعض التيارات لهذه الحالة في تحقيق أجنداتها وإقامة تحالفات مشبوهة؛ بينما نرى ما تقوم به الجامعات الأمريكية من تحرك واسع وغير مسبوق يعيد للذاكرة الدور الذي لعبته الحركة الطلابية في الاحتجاجات ضد حرب فيتنام .
واليوم تنتفض جامعات النخبة مثل هارفارد وماستسوتش وكولومبيا وكاليفورنيا من أجل الضغط على الادارة الامريكية لممارسة الضغوط على حكومة اليمين الإسرائيلية من اجل إيقاف الحرب والدمار ومراعاة حق الفلسطينيين في الحياة وحتى ان جماعات يهودية وأفراد يشاركون في هذه التظاهرات والاعتصامات .
واليوم مع مايحدث في الغرب وما تتعرض له تلك المظاهرات والاعتصامات من قمع للحريات ومحاولة فضها بالقوة، والحد من أنشطة الطلاب بشكل غير مسبوق؛ لمجرد أن الحريات المشروعة لامست الخطوط الحمراء ومحظورات الرأي ومحرمات السياسة والديمقراطية في الغرب على الدوام.
وكأننا في دول أخرى من العالم الثالث وليس أمريكا وأوروبا التي تنادي بحقوق الإنسان والحريات.
لقد فضحت هذه الممارسات العنيفة ضد الطلبة قي الجامعات زيف الديمقراطية الغربية، وعرت القيم التي تدعي أنها تحافظ عليها.
صحيح أن صمت الجامعات العربية لا تاثير فعلي له على أنظمتها؛ ولكنها تكشف حالة العجز العربي والتشظي في المواقف والسياسات وهو أمر يثير الأسى، ويثير علامات استفهام كثيره عن أسبابه؟
إن ما يقوم به الكيان الصهيوني اليوم من تدمير لكامل البنية التحتية واستهداف الأهداف المدنية التي يمنع منعا باتا استهدافها بموجب القوانين الدولية للأمم المتحدة ، ودون رادع وبحجة القضاء على حركة حماس وقياداتها، نتج عنها خمسة وثلاثين ألف شهيد وأكثر من مائة ألف جريح وبنية تحتية مدمرة، يعد سابقة خطيرة لم يقم بها إلا الكيان الإسرائيلي فقط، وهدفه الحقيقي إنهاء القضية الفلسطينية وإبادة شعب بأكمله، وهو ما يستوجب ويستدعي تحركات شعبية ورسمية لإيقاف هذه الحرب تدعم تظاهرات، ومطالب الجامعات الامريكية والأوروبية، إن قوة هذه الاحتجاجات والاعتصامات في الجامعات الأمريكية جسدت مدى الخوف منها دفعت الكونغرس الأمريكي لتشريع قوانين مستعجلة تحد من هذه الاحتجاجات بعد أن امتدت إلى فرنسا وجامعة السوربون العريقة فيها.
نقف اليوم أمام مشهد نادر لم يتكرر منذ حرب فيتنام، وتظاهرات طلبة فرنسا نهاية عقد الستينات من القرن الماضي عندما أجبرت زعيم التحرير الفرنسي ديغول على الاستقالة.
لكن الأمر المؤلم الذي يدعو إلى الخجل هو واقع نخبنا السياسية وشلل أكاديميينا وشباب جامعاتنا العربية.