استراتيجية السلطة العالمية العميقة “س ع م” المطبقة في المنطقة العربية
أ.د/ خالد أحمد القيداني
لا تختلف الاستراتيجية التي تستخدمها (س ع م) في المنطقة العربية عما تنفذها على مستوى العالم، إلا أن وضع المنطقة العربية الاقتصادي له خصوصية تتطلب تنفيذ الاستراتيجية بتخطيط أكثر دقة، وبدون تدمير المنطقة الغنية بالموارد والثروات المطلوبة لاستمرار هيمنة منظومة (س ع م) الدولية على العالم.. لقد حظيت المنطقة بالاهتمام من حيث التخطيط، ومن حيث التنفيذ، ولكي تتحقق أهداف (س ع م) يتم العمل بمنظورين مهمين، الأول: يتعلق بإعاقة أي تشكل لإمبراطورية إسلامية والتي لم ولن تحدث ما لم تكن الدول العربية في بؤرته ومرتكزه، والثاني: يتعلق بكيفية استغلال الموارد الطبيعية الموجودة في المنطقة دون الإخلال بسلسلة الإمداد التي تضمن استمرار ضخها واستحلاب ثرواتها ومقدراتها، وفيما يلي سيتم توضيح واستعراض أسلفناه بإيجاز:
1-على المستوى الداخلي (المحلي):
– حُكْمُ الأقليات:(من يعتبر أن السلطة له حقًا، كان حُكمَه ظلمًا وجورًا وباطلًا).
هذا البند له من الحساسية ما يجعل من اختصار مضمونه شرحًا وافيًا لمكنونه فمن الملاحظ أن (س ع م) تستغل الأقليات، وتبعثها فكرًا وشعورًا داخل أغلب دول المنطقة العربية، أساليبها في تحقيق ذلك تتجلى في إعادة تمثيلها مجتمعيًا وفق منظورات سياسية أو طائفية، على الرغم من كونها أوضاع اجتماعية ثقافية معهودة وطبيعية.. فنجدها تارةً تدعم تحزيبها سياسيًا، وتارةً من خلال التحشيد المجتمعي ضد النظام الحاكم، وأخرى من خلال تحويل الجيوش إلى أقليات حاكمة عبر دفعها للاستحواذ على السلطة من منظور القوة العسكرية، وتارةً أخرى من خلال تصوير النظام في الوعي الجمعي للمجتمع على أساس طائفي أو مذهبي أو حزبي أو ديني.. كما نجدها تحاول رسم صورة ذهنية مجتمعية لحكم بعض السلطات السياسية في المنطقة العربية، على أسس عرقية أو سلالية، وفي بعض الأنظمة الأخرى تصوير أنها تعمل وفق أساس عائلي أو أسري أو عنصري.
– توليد ودعم التنظيمات داخل الدول: (التنظيمات الدينية سيف الشيطان المُسلَّط على رقاب المجتمعات).
تدعم (س ع م) التنظيمات السياسية والاجتماعية داخل كل الدول العربية والإسلامية وتقوم باحتوائها وجودًا فإن كان التنظيم خديجًا (ولد قبل أن ينضج) (Premature) فهي تحتضنه وترعاه حتى يقف على قدميه، وكل تنظيم ينشأ هي من تحتويه وتدعم توجهه وأهدافه أيًا كانت، فأي تنظيم يمكن تحريف مساره أو إعادة توجيهه نحو تحقيق أهدافٍ تخدم (س ع م) باختراقه عبر قياداته، أو حتى تحريكه متى ما أرادت ضد السلطة والدولة وهذا هو أهم مطلب لها من وجوده، فبالسماح له (إعطاءه الضوء الأخضر) ليدخل المعترك السياسي أو الاجتماعي يُحدث توترًا وفوضى يُخل بالمعادلة التي تكون غير مستقرة أصلًا.. وكل ما سبق لأصحاب الألباب، تدعمه وتشرحه وتثبته الوقائع والأحداث على مر التاريخ والعصور.
بقليل من التركيز وبالكثير من التمعن، ندرك أن التنظيمات الدينية والطائفية التي خلقتها/تخلقها (س ع م) أو تحتضنها، أو ترعاها، أو تمثل لها غطاءً دوليًا، إنما أوجدتها لإحداث مزيدًا من الانقسام والتشرذم داخل جسد المنطقة العربية خاصة، والأمة الإسلامية عامة، فهي موجهة للعمل في بلاد المسلمين بشكل كامل، نشاطًا وأهدافًا وغايات.. كما أن (س ع م) تركز مؤخرا على إنشاء تنظيمات متخصصة بكل طائفة من المسلمين، فهي تُنشئ وتخلق وتدعم تنظيمات سُنية عابرة للحدود، وفي الفرقة الشيعية أنشأت إيران 1978م كدولة شيعية لتدعم الطائفة الشيعية على مستوى العالم، كما أنها تُسهِّل من انبعاث مرجعيات كبرى للشيعة وتتعامل معهم استخباريًا، حيث إن كل طائفة شيعية تتبع مرجعية تُعَدُّ تنظيمًا بحد ذاتها، وأسهمت في إنشاء تنظيمات شيعية في بعض الدول العربية ودعمتها وهي تسعى لتوسيع ذلك عبر خلق تنظيمات شيعية أو ذات توجه شيعي في دول أخرى.
التنظيمات الدينية والطائفية، أداة مرعبة وفائقة الخطورة، في كل البلدان وفي كل العصور، فهي إن نزعت إلى العنف وهو غالب طبعها، كانت مدمرة ودموية، فإن كانت تنتهج تعاليم جهادية مادية أو كانت قياداتها سادية فقوتها ستكون دمارًا مسلطًا على مجتمعاتها، أما إن كانت تنتهج تعاليم جهادية روحية أو كانت قياداتها مازوخية؛ فستكون ذات نزعة هدامة تدمر حياة أتباعها.
تعد التنظيمات الدينية من أقوى صور العقاب من الله تعالى على الناس، قال الله تعالى: “قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ” سورة الأنعام الآية 65، وهي أيضًا من أوثان هذه الأمة، ففي آيات أخرى قرن الله تعالى وجودها بالشرك حيث قال الله تعالى: “إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُوا۟ دِينَهُمْ وَكَانُوا۟ شِيَعًۭا لَّسْتَ مِنْهُمْ في شيء ۚ إنما أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَفْعَلُونَ؛ مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰٓ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ؛ قُلْ إِنَّنِى هَدَىٰنِى رَبِّىٓ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ دِينًۭا قِيَمًۭا مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًۭا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ” سورة الأنعام الآيات 159 – 161، وقال الله تعالى: “مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُوا۟ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ، مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُوا۟ دِينَهُمْ وَكَانُوا۟ شِيَعًۭا ۖ كُلُّ حِزْبٍۭ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ” سورة الروم الآيتان31، 32.
وفي الآيات السابقة، إشارة من الله تعالى صريحةً واضحةً أن كل من يفرقون الدين هم الذين يجزئونه بحسب أهواءهم، كما أن في قراءة حمزة وفي قراءة الكسائي تُقرأ كلمة (فَرَّقُوا) بألف بعد الفاء مع تخفيف الراء (فَارقُوا۟)، أي تركوا وخرجوا عن دينهم، ولا أحسب هنا إلا أن التنظيمات الدينية أفضل تعبير لهذه الأعمال فهي تقسم الدين وتمزقه وتجعل من ينتمي إليها مفارقا لفساحة الدين وعمومه إلى ضيق التنظيمات وخصوصيتها المتعصبة.
– إيقاد بؤر النزاع والخلافات داخل المجتمعات: (الأُخوَّةُ المَتينَةُ يَفتِكُ بها ويلتهمها الطَمَع).
عمدت (س ع م) إلى تدعيم أي تكتلات اجتماعية أو عرقية أو ثقافية تظهر في المنطقة، على اعتبار أن نشاطها في هذا المجال إنما يتضمن التزامًا منها في دعم لحقوق الأقليات، ونجد هنا بشكل مكثف، أن الأنشطة الدولية التي تستهدف المحيط الاجتماعي للمجتمعات تأتي عبر المنظمات التي تعمل في بعض الدول التي تقوم بإعادة صياغة مفهوم الانتماء الاجتماعي وفق أهداف تلك المنظمات (حقوقية، نسوية، إغاثية، إنسانية، تنموية…الخ)، أو من خلال القيام بتغذية الانتماءات الفرعية داخل المجتمعات، سواءً على المستوى العشائري أو القبلي أو المناطقي وغير ذلك من الانتماءات، أو من خلال تشجيع الانتماءات السياسية للفاعلين السياسيين في الدول المستهدفة سواءً كانت محلية أو إقليمية أو دولية (وطنيين، قوميين، ليبراليين، اشتراكيين، شيوعيين،…الخ)، أو من خلال دعم وتغذية الانتماءات الطائفية.
في هذا المجال، نجد أن أبرز ما يتم العمل من خلاله لتحقيق انقسام المجتمعات العربية وبلورة الصراع الديني والطائفي فيها، يتجلى في منظورين رئيسيين ولكل منظور تشعباته ومذاهبه المختلفة؛ الأول: منظور الأصوليين وما يجره من تحوصل فكري ينعكس على الوضع المجتمعي بشكل عام، والمنظور الآخر: منظور التحديثيين وما يسوقه من فكر تنويري متحرر إلى حدود بعيدة تؤثر على المكنون الحضاري والقيمي للمجتمعات.
2- على المستوى الإقليمي والدولي:
– إيجاد بؤر نزاع مع الدول المتجاورة: (تكريس المصلحة في الدولة القُطرية يمحق مصلحة الأمة الإسلامية).
في هذا المجال، يمكن الحديث بشكل موسع عن العديد من القضايا التي تعمل (س ع م) من خلالها لتمزيق الأمة الإسلامية، لكن، وحتى لا يضيع المقصد في المرصد سنقوم بالإشارة إلى بعض القضايا الرئيسية التي تم تغطيتها علميًا بحثًا ودراسة، ونشاهدها عيانًا بيانًا على الأرض وتحكيها الأحداث واقعًا معاشًا وهي: قضايا النزاعات الحدودية بين الدول المصطنعة من قبل (س ع م).. وأيضًا الخلافات حول المياه والمناطق الاقتصادية المشتركة على الحدود، وقضايا التدخلات، ومحاولات الهيمنة من بعض دول المنطقة القوية اقتصاديًا على الدول الأضعف منها، ومحاولات إعادة رسم التحالفات بناءً على توجهات قيادات الدول لا على المصالح والأهداف والمصير المشترك، والقيام بتعزيز مصطلح الأمن القومي الوطني، خارج سياق الأمن القومي العربي والإسلامي.
– خلق عدو إقليمي: (عَدوٌ مُتَربص من داخل السياج أخطر من ألف عدوٍ خارجه).
يستحيل الحديث عن العدو الإقليمي دون التطرق للكيان المحتل ومحاولة إقحامه في إطار المفهوم الجيوسياسي المستحدث في المنطقة (الشرق الأوسط)، لقد تم تجزئة الدول العربية به، وعزز من انقسامها لأكثر من خمسة عقود، كما عزز فصل الأمة العربية عن جسم الدولة الإسلامية. سنحاول هنا ألّا يأخذنا الحديث في هذا الأمر إلى أبعاد قد أُشبِعَت بحثًا وتحليلًا ودراسةً، سنشير إلى نقطة تتعلق بمدى تأثير وجود إسرائيل في ترسيخ الدولة القومية العربية كجزئيات من الوطن العربي، المجزأ أصلًا من تفكيك الدولة الإسلامية، فقد لعب وجود إسرائيل كدولة دورًا أساسيًا في إعادة صياغة الدولة القُطرية وتعميق مفهومها لدى النخب والقواعد الشعبية على الصعيد العربي وعلى الصعيد الإسلامي، وخاصة بعدما استطاعت (س ع م) تمكين إسرائيل من عقد اتفاقيات سلام مع بعض الدول العربية والإسلامية مما حقق نجاحًا في زيادة التباينات النخبوية والشعبية على الصُعد القومية، والقُطرية، والجغرافية أيضًا.
تجب الإشارة، إلى أن (س ع م) لا تستند في خلق عدو إقليمي على مسألة العداوة فقط، بل مرتكزها الرئيس حول ذلك تضمين سياسة الاستقطاب عبر خلق أكثر من محور، ومن ثم السيطرة على المحاور كلها، فهي من خلال ذلك، تستطيع خلق نوع من التمزيق الإقليمي من جهة، ومن جهة أخرى لا تضع البيض كله في سلة واحدة تحسبًا لأي تغير في التحالفات، واستعدادًا لإعادة رسم خارطة الصراع حال نفوق أو انتهاء زخم العداء القديم، والعمل على تجديده بأوجه أخرى متى ما اقتضت الحاجة لذلك، أو حتى حال رغبتها في إحلال واستبدال العداء الإقليمي وفق مصالحها وأهدافها، بعداءٍ أكثر تدميرًا واتساعًا وخطورةً.
وهنا نستطيع الإشارة إلى أنه تم وضع إيران كعدو إقليمي جديد للمنطقة فهي عدو لإسرائيل من جهة، ومن جهة أخرى هي أيضًا وضعت نفسها كعدو للدول العربية؛ فوجود إيران قد حفز سياسة الاستقطاب على أساس طائفي في المنطقة، وبهذا أصبح العداء بين دول المنطقة مُركَّبًا، فإسرائيل فيه عدوًا دينيًا وعسكريًا عامًا أمام العرب والمسلمين كافة (بما فيها إيران)، ومن جهة أخرى تمثل فيه إيران عدوًا طائفيًا وسياسيًا خاصًا بالمنطقة العربية، وعلى وجه العموم عدوًا للفرقة الإسلامية السنية.
مؤخرًا، وفي إطار هذا البند، تم إضافة تركيا كعدو سياسي منافس لبعض الدول العربية القوية في مسألة زعامة الأمة الإسلامية من جهة، وكمنافس اقتصادي لبعض الدول العربية في المنطقة من جهة ثانية، وكقوة عسكرية إسلامية صاعدة لا يستهان بها من جهة ثالثة، وقد شاهدنا كيف تم توريط تركيا في عداوات مباشرة مع بعض أقوى الدول العربية، التي لازال لها جذوة تحت الرماد لم تخمد بعد.
ومؤخرًا، بعد أن أدركت تركيا أن عداواتها تلك لا تخدم مصالحها، لذا فهي تلملم مغامراتها الانفعالية غير المحسوبة التي افتقدت للرشد السياسي والتي كادت أن تنهي علاقاتها مع الكثير من الدول العربية.
– خلق عدوٍ دولي: (عندما يتولى الشيطان القيادة لن تكون حربه إلا على الفضيلة).
لا يمكن أن تعيش أو تعتاش (س ع م)، بل ولا يمكنها أن تتقدم أو تتطور إلا بوجود عدو.. لذلك، توجد لنفسها الأعداء وإن انتهى لها عدو خلقت آخر، وفي هذا المجال شاهدنا قدرتها في تصوير الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي كعدو دولي أطرته للغرب كعدو للرأسمالية وأطرته للشرق كعدو للأديان وعلى رأسها الإسلام، وقامت بإدارة لعبة الحرب بالوكالة بين المسلمين مع السوفييت في أفغانستان مع دعم غربي مادي ولوجستي.
منطلقات (س ع م) في إشعال الحروب تتم باستراتيجية ناجحة جدًا، ويوضح ذلك حروبها التدميرية ضد الكثير من الدول الإسلامية والعربية دون أي رد فعل من العرب والمسلمين؛ بل وفي بعضها بتشجيع منهم، وكذا عندما قامت أمريكا باحتلال أفغانستان لم تصور كعدو للمسلمين، فقد خلقت أولًا عدوًا من داخل الإسلام أسمته بالإرهاب ومن ثم بدأت في تدخلاتها وحروبها السرية والعلنية في البلدان الإسلامية تحت هذه الذريعة.
استراتيجيات السلطة العالمية العميقة (س ع م) المسارات الجديدة:
المتغيرات في العالم تتوالى بمدخلات جديدة، وتجدد فيها الأحداث بحيوية، وينعكس ذلك بشكل مباشر، وغير مباشر على المنطقة.. ومن المنطقي، بل من الحتمي، أن تقوم (س ع م) بإعادة صياغة وتحديث استراتيجيتها بشكل يتلاءم مع مستجدات الأحداث وفقًا لمصالح واحتياجات المرحلة، فالحديث عن وجود خطة محكمة تظل قائمة لمئات وعشرات السنين، دون تعديل أو تجديد، أو حتى تغيير، يعتبر محض خيال، ما تظل ثابتة فقط هي الغاية والأهداف.
في ظل تنامي احتياج العالم للطاقة، ولأن الطاقة البديلة تتدفق بشكل لا يلبي الاحتياجات المتعددة والمتنوعة، ونتيجة عدم القدرة على الاستغناء عن الصناعات البتروكيماوية في الوقت الراهن، تظل المنطقة العربية محور ارتكاز لأي مخطط عالمي يتم وضعه، هي أساسه ومنبعه، طالما ظلت هي من تتحكم باستمرار تدفق أغلب احتياجات العالم من النفط.. لذلك تبلور (س ع م) استراتيجيتها انطلاقًا من المنطقة العربية كأمر لا يمكن تجاوزه فكل مواجهة لها في أي بقعة في العالم لن تنجح مالم تُؤمِّن نفسها أولًا من ناحية المنطقة العربية، وبالتالي فان مبتدأ كل مخططاتها هي المنطقة العربية ومن ثم العالم.
ومن خلال الأحداث التي بدأت تجلياتها تظهر في المنطقة تتضح مجموعة من النقاط التي تمثل تحديثًا لمخططات (س ع م) يمكن استقراؤها من خلال التالي:
1- من منظور البيئة الداخلية:
- تهيئة المنطقة للانتقال إلى الخطط الجديدة: (على الدوام، طرق جديدة فقط هي كل ما تستلزمه عملية خداع الحمقى).
تمر المنطقة بمرحلة مخاض صعب على جميع الأصعدة، سياسيًا، اقتصاديًا، اجتماعيًا، وثقافيًا، فابتداءً من قيام (س ع م) بخلط الأوراق فيها عبر قيامها بركوب موجة ما سُمي بثورات الربيع العربي عبر تأجيج الأحداث سياسيًا وإعلاميًا، ومن ثم التخلص من بعض الأنظمة الحاكمة التي كانت تحظى بدعمها منذ فترة طويلة نظرًا لأنها قد حققت نوعًا من المؤسساتية التي جعلتها تعمل وفقًا لمبدأ المصلحة الوطنية لبلدانها.
كما أنها قامت أيضًا بمحاولات لإعادة ترتيب مسار العلاقات الإقليمية لبعض الدول الأخرى على أساس إنشاء التكتلات ضد بعضها البعض، كما حرب اليمن وسوريا وحصار قطر وغيرها، وكل ذلك، يحدث بغرض تعميق التفرقة في المنطقة لتسهل السيطرة عليها وتوجيهها نحو الأهداف التي تخدم وتحقق مصالح (س ع م).
– ضرب الشعوب بالسلطات الحاكمة: (لإشاعة الفوضى اترك العامة ينقضون على السلطة ويتولون الحكم).
غالبية شعوب المنطقة باتت أسيرة الأحقاد ضد أنظمتها الحاكمة، وللعديد من الأسباب ونتيجة التوجيه الإعلامي المكثف الذي يؤجج هذا العداء، فإن الشعوب في الدول المستهدفة قد أفرزت نفسها إلى جماعات مناوئة، ومجموعات مؤيدة للنظام الحاكم؛ كما يتم تشجيع الأنظمة السياسية ودفعها نحو مزيدٍ من الإجراءات التي تعمق الانقسام بين النظام الحاكم والمجتمع، وتعزز من فجواته السلطوية والمجتمعية، المبنية على أسس دينية، أو طائفية، أو ثقافية، أو اقتصادية، أو سياسية أو بعضها أو كلها.
الغرض من ذلك، إيجاد احتقان شعبي كامن قابل للاشتعال في أي وقت، وبذلك تصبح الأنظمة السياسية في دول المنطقة رهينة لـ(س ع م) من ناحيتين، الأولى: تكون تحت التهديد بإشعال الصراع بينها وبين مجتمعاتها، أو على أقل تقدير استخدامها ضدها كأوراق ضغط على الصُعد الدولية، والناحية الأخرى: حال رغبت (س ع م) في إشعال الصراع وتغيير الأنظمة السياسية في تلك الدول أو تجزئتها وتفتيتها إلى كيانات ودويلات أصغر.
– خلخلة اللُحمة المجتمعية: (إذا اقتنع الناس بأن الاختلاف خلاف، فسَد تعايشهم).
هذا المجال، هو محور نشاط (س ع م) وهو أساس عملها، هي تعمل عليه منذ ميلاد الدول التي ولدت مشوهة التكوين جغرافيًا ومجتمعيًا بعد مرحلة الاستعمار، ومن الملاحظ أن كل دول المنطقة تعاني حاليًا من خلل بنيوي في مجتمعاتها، عرقيًا، وفي بعض الدول دينيًا، أو طائفيًا، كما أن (س ع م) خلقت/ تخلق التنظيمات الراديكالية، التي تعمل على تحزيم المجتمعات في كينونات ذات أهداف متعارضة، ولعل من أخطر تلك التنظيمات على الإطلاق هي التنظيمات الدينية التي تكرس نفسها بمبرر عقائدي يجعلها من جهة، تواجه بقوة وعنف السلطة والشعب على حد سواء، ومن جهة أخرى تواجه بعنف أشد نظيراتها من التنظيمات الدينية الأخرى وخاصة تلك التي تملك نفس أهدافها، لكن بأفكار وتوجهات مختلفة، فيصبح المجتمع في حرب دينية تشترك فيها كل الأطراف التي تعتقد أنها تُقيم شرع الله تعالى.
– تعزيز الاغتراب السياسي: (من عزل نفسه عن نيل حقه، أضاع حياته).
تعاني المنطقة العربية حالة من الجفاف السياسي في مسألة المشاركة في السلطة وجودًا وتكوينًا، وهو ما يجعلنا نشاهد أن كل اهتمام (س ع م) بكافة أدواتها ووسائلها يتجه لكل ما من شأنه أن يؤدي إلى تحويل ذلك إلى شعور متنامٍ ومزدوج بالاغتراب السياسي شعبيًا وسلطويًا، من حيث شعور المواطنين بالاستياء وعدم الرضا عن الحياة السياسية لعدم اقتناعهم بالنظام الحاكم ذاته، أو بدور الجماعات السياسية الموجودة فيه، أو ابتعاد السلطة السياسية عن مكوناتها المجتمعية نتيجة شعورها بكراهيتهم لها، أو تآمرهم ضدها.. إن الهدف من ذلك يتبلور في محاولات إحداث فجوة ما بين المجتمع والنظام السياسي لتكون سببًا ونتيجةً للشعور بعدم شرعية النظام السياسي. لتلك المساعي المشبوهة دور جوهري فيما يخص الإخلال بالمعادلة السياسية في المجتمع السياسي داخل أي دولة، وله تأثير مباشر وفعال في تهديد استقرار النظام؛ بل وفي بقاء ووجود الدولة برمتها.
2- من منظور البيئة الخارجية:
• تفتيت التضامن في المنطقة: (تُحصد العداوة من زراعة الأحقاد والضغائن).
هناك محطات لا يمكن إغفالها قامت بها أو من خلالها (س ع م) بإعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وكانت تتم بين الحين والآخر، فمن خلالها استطاعت تفتيت اللحمة والتضامن في المنطقة العربية، كان مبتدؤها في العصر الراهن اتفاقية سايكس- بيكو، ومن ثم القيام بزرع إسرائيل في المنطقة، ومرورًا بضرب التحالفات الإقليمية الواسعة (جامعة الدول العربية)، والإقليمية المحصورة( مجلس التعاون الخليجي) وإصابتها بالوهن والتضارب المصلحي من خلال ترتيب بعض القضايا والأحداث التي تثير الانقسام مثل اتفاقية كامب ديفيد، والغزو العراقي لدولة الكويت، أو من خلال إثارة الانقسامات والتباينات كما حدث في اجتماعات جامعة الدول العربية تجاه بعض القضايا والأحداث.
تعاني المنطقة حاليًا من جمود وفتور نشاهده ماثلًا في علاقاتها المتدنية بسبب أحداث ما سُمي بالربيع العربي في العام 2011 الذي مثَّل محكًا خطيرًا في انحسار العلاقات العربية بل وأدى إلى تمزق اللُحمة المجتمعية لبعض دولها نتيجة الحرب الأهلية فيها، وأثار في ذات الوقت انقسامًا حادًا في المنطقة تجاه دعم أطرافها، وأدى أيضًا إلى موجة من التداخلات والتدخلات السياسية التي أثارت أحقادًا بين مجتمعات ودول المنطقة وهذا بدورة سهل لـ(س ع م) الاستفراد بالمنطقة، وساهم في تمرير أهداف ومصالح لها، ما كان لها أن تمر لو كان هناك اجماع عربي رافض ومناهض لها.
– إعادة صياغة مفهوم الإرهاب العالمي: (لتغيير قناعات الناس أشركهم في الترويج للقناعات الجديدة).
ما يسمى بالإرهاب، يمثل مرتكزًا حاكمًا للعلاقات بين دول المنطقة العربية مع الدول الغربية وباقي دول العالم، وبالنظر إلى حيثيات مفهوم الإرهاب ومكوناته نجد أنه قد تم إعادة تفصيله على الإسلام كليًا وبشكل أكثر تفصيلًا على الشق السني من الإسلام.
إن المزج المتعمد بين الإسلام والعمليات الإرهابية، فيه من النوايا الخبيثة ما يحقق الغرض من إعادة صياغة مفهوم الإرهاب وفق مدلولات فكرية عامة، تشير في مجملها وجزئياتها نحو تحقيق الترادف اللفظي لمفهومي الإرهاب والإسلام، فأي جنح فردية أو جرائم يقوم بها فردٌ ما من المسلمين باتت تنشر إعلاميًا على أنها عمليات إرهابية.. وفي المقابل يتم إنتاج فكر غربي مسيحي مناهض للإسلام بذاته، والمقصد من ذلك تحويل العداء إلى الدين الإسلامي باعتباره في الفكر الغربي جذر يأتي إرهاب المسلمين من تعاليمه، فقوة استهداف المفهوم (الإسلام) يحقق أهدافًا أفضل من استهداف المعلوم (المسلمين)، بل وأقل كلفة منه وأكثر نجاحًا كونه يوجه الجميع لمحاربة عدوٍ معلومٍ معنويًا وغير واضح ماديًا ليجد المسلمون أنفسهم في نهاية المطاف يحاربون عدوًا هو مرتكز وجوهر معتقداتهم.
تحويل العداء من المسلمين إلى الإسلام يحقق أهداف ومصالح (س ع م) وفي ذات الوقت يوجه العداء نحو كيان معنوي منتشر في كل أصقاع المعمورة، ذلك يُحجم تبنيه على المستوى الفردي (منع إسلام أي فرد)، ويمنع أي دعم لأنشطته الدعوية على المستوى المجتمعي، وعلى المستوى الجمعي ينتج خارطة غير محددة المعالم للعدو العالمي الجديد(الإرهاب)، وفقا لتوجهات (س ع م) التي تحتكر معلوماته ومحدداته وحدوده؛ بل وتتحكم بمخرجات عملياته.