الجريمة في اليمن مرآة الفوضى والصراع

أ/ عمر الشلح.. رئيس تحرير صحيفة التصحيح
ثمرة مرة لشجرة الفوضى التي غُرست في تربة مضطربة اسمها الجريمة، سُقيت بدماء النزاعات وتصدعات الدولة، حتى أينعت فسادًا وعنفًا وانفلاتًا وتشظيًا واضطرابًا.. إن المتأمل للمشهد اليمني اليوم، يرى أن الجريمة لم تعد مجرد فعل فردي ينشأ عن نزوة أو حاجة أو غضب، بل تحولت إلى ظاهرة اجتماعية وسياسية، تتغذى من غياب الدولة وتفتُّت مؤسساتها، وتستمد قوتها من اقتصاد الحرب، ومن شبكات مصالح تتقاطع فيها السياسة مع السلاح، والمال مع الولاء.
لقد كان اليمن رغم فقره وتحدياته مجتمعًا تحكمه أعراف راسخة، وتضبطه قيم العرف والقبيلة والدين، تحدّ من الجريمة وتضع لها حدودًا ومعالجة فور حدوثها وضمانات لعدم تكررها؛ لكن حينما انهارت سلطة الدولة، وتعددت مراكز القوة، وتفككت الأجهزة الأمنية والقضائية، انفتحت الأبواب على مصاريعها أمام كل أشكال الانتهاك؛ فانتشرت جرائم القتل والسطو والاختطاف، وصارت الطرقات مسرحًا للنهب، والأسواق مرتعًا للفوضى، والمدن والقرى على السواء تعيش في ظل خوف دائم.
الأرقام والوقائع شاهدة على ذلك.. تقارير محلية ودولية تشير إلى تضاعف معدلات الجريمة منذ اندلاع الحرب، وتزايد جرائم القتل العمد، والسطو المسلح، والابتزاز، بل وحتى تجنيد الأطفال في جماعات متطرفة مسلحة، وذلك جريمة مضاعفة بحق الطفولة والمجتمع معًا.. وفي غياب سلطة قضائية فاعلة صار المجرم يفلت من العقاب، بل أحيانًا يجد في الفوضى حماية وغطاء، فيتحول من فرد خارج على القانون إلى جزء من شبكة نافذة، تفرض سطوتها على الناس وتستثمر في معاناتهم.
إن الجريمة هنا ليست مجرد انعكاس للفقر، وإن كان الفقر وقودًا لها، بل هي نتاج مباشر لغياب الدولة وتعدد السلطات؛ فحينما تتنازع البنادق على الشرعية وتغيب المرجعية الواحدة، يصبح القانون مجرد حبر على ورق، وتتحول العدالة إلى سلعة نادرة.. وحينما يضعف التعليم، وتنهار فرص العمل، ويُترك الشباب في مواجهة البطالة والفراغ، يصبح الانخراط في الجريمة أو حمل السلاح خيارًا مغريًا، بل أحيانًا الخيار الوحيد للبقاء.
الواقع يقول بأن الجريمة في اليمن اليوم ليست عرضًا جانبيًا، بل هي أداة من أدوات الصراع؛ فبعض القوى تستخدمها لترهيب الخصوم، أو لفرض واقع جديد على الأرض، أو لتمويل أنشطتها عبر التهريب والابتزاز.. وهكذا تتغذى الفوضى على الجريمة وتتغذى الجريمة على الفوضى، في دائرة جهنمية لا تنكسر إلا بعودة الدولة، دولة القانون والمؤسسات؛ لا دولة الميليشيا والولاءات الضيقة.
المعالجات تبدأ أولا داخل الشرعية من إعادة بناء مؤسسات الأمن والقضاء على أسس وطنية، بعيدة عن المحاصصة والولاءات المناطقية؛ فلا أمن بلا قضاء مستقل، ولا عدالة بلا أجهزة أمنية مهنية.. كما أن معالجة الجريمة تتطلب معالجة جذورها: الفقر، البطالة، غياب التعليم، وانهيار الخدمات، وتهافت روابط المجتمع.. فلا يمكن أن نطلب من شاب جائع عاطل أن يحترم القانون- بالأخص إذا كان كبار القوم والأحزاب مخالفين للدستور والقانون، بينما لا يجد ما يسد رمقه- كذلك لا بد من برامج لإعادة دمج المقاتلين والأطفال المجندين في المجتمع، حتى لا يتحولوا إلى قنابل موقوتة تنفجر في وجه المستقبل.
اليمن بحاجة إلى مشروع وطني جامع، يعيد الاعتبار لفكرة الدولة، ويستعيد ثقة المواطن بالقانون، ويجعل من العدالة مظلة للجميع؛ فالجريمة ليست قدرًا محتومًا، بل هي نتيجة لظروف قابلة للتغيير.. وإذا كانت الفوضى قد أنجبت الجريمة، فإن النظام والعدل قادران على وأدها.. وما لم يدرك اليمنيون أن أمنهم لا يتجزأ، وأن الفوضى التي تسمح بجرائم اليوم ستلتهم الجميع غدًا، فإن النزيف سيستمر، وستظل الجريمة مرآة تعكس انهيار الدولة، بدل أن تكون استثناءً في ظلها.
وهكذا فإن الجريمة في اليمن ليست مجرد حكاية عن لص أو قاتل، بل هي قصة وطن يتأرجح بين الفوضى والنظام، بين الانهيار والنهضة والانقسام والوحدة؛ والرهان الحقيقي ليس على قوة السلاح، بل على قوة القانون، وليس على تعدد الولاءات، بل على وحدة الدولة وتماسكها؛ ومن هنا يبدأ الطريق الطويل نحو استعادة الأمن، وإعادة بناء مجتمع لا يخاف من جاره، ولا يبيت على قلق، ولا يورث لأبنائه سوى السلام.






