الصديق النجيب، فاجعة الرحيل المبكر

د. طه حسين الهمداني

رحيلٌ عن رحيلٍ يختلف، مثلما هي الصداقات التي تنشأ بين الأفراد، لذلك يفجعنا الرحيل وصدمة الفقد تعجزنا عن استيعاب هذا الرحيل المبكر المسحوب بوجع الفقد لاخ وصديق قل نظيره، ذلكم هو الدكتور الحبيب والصديق الاوفى والرفيق الابي الطيب الأجل الدكتور
نجيب منصور العوج.
نتظاهر أحيانا بأننا بخير، لكن في كل الأحوال لا بد من التسليم والرضا بقضاء الله وقدره ومشيئته وهي أقصى درجات الصبر.
نجيب أيها الحبيب الأقرب إلى شغاف القلب، يا بلسم الجروح وانسياب النهر حين تتدفق مياهه حاملة معها نبض الحياة، يا من كنت جبلًا من الأخلاق الرفيعة وقمة تلامس العلياء. كنت نجما تطل على مشهد الأصدقاء لتلقي علينا التلويحة الأخيرة، بأي اللغات أكتب عنك وأي الكلمات يمكن أن تفي ولو جزء من وجودك وحياتك بيننا.
سأظل أحمل لك نفس المشاعر من الصداقة والأخوة ما حييت في هذه الدنيا الفانية؛ وستبقى ذلك الأخ والصديق الذي لم يتنكر يوما لوطنه ولا لأصدقائه وأحبائه فقد كانت جغرافيته بلا حدود، وسابقى أستظل بوجهك البشوش وأفيائك الباردة، سيرتك العطرة لن تغيب، يا صاحب الروح الكريمة والمعشر الطيب، وجه صبوح يرسم الود وينشر الدفء والصدق والوفاء.
صديقي الراحل رغم صدمة ترجلك أيها الفارس الابي وخسارة وطن لرجل دولة وعقل نير ينضح رؤى ويبتكر حلول للمشكلات ولا يهاب الصعاب، إلا أن إيماننا بالله وبحقيقة الموت الأزلية يجعلنا على بالقرب منك مهما غابت روحك في عليين عند عزيز مقتدر، فلا تزال الذكريات تتقافز في الذاكرة ومآثرك حاضرة، ستظل يا نجيب بكل ذلك العنفوان واجتهادك في كل المواضع، قريبا من كل اجيال وأصدقاء العمل والدراسة والشباب.
لا يمكن تجاوز مسيرتك الحزبية واخلاصك للمؤتمر الشعبي العام، وجهودك بين أوساط الشباب وتلك الفعاليات واللقاءات الاجتماعية، والعمل الحكومي الدؤوب. لا يمكن نسيان البدايات عند عودتك من رحلة الدراسة والتعليم في روسيا كرئيس لقسم الأحزاب والتنظيمات السياسية في الأمانة العامة للمؤتمر.
لا يوجد أي خلاف عليك فقد كنت استثناء في مشوارك واستثناءا حتى في رحيلك، هادئًا طموحا برفق لا تَستفز أحد ولا تنافس على مركز أو موقع، كنتُ متيقن أن الهدوء والتبصر يمشي معك على قدمين، مبادر ونشيط في كل الميادين، بارع في الإدارة والسياسة والرياضة والمجتمع، طلق المحيا وفيّ لأصدقائه، لم تغيرك الألقاب يوما ولا الاصطفافات لحظة واحدة.
نجيب منصور العوج أتذكر كيف حملتْ بداية وعكتك إليّ شيء من القلق يوم علمت أنك في العناية المركزة، وحين تعافيتَ انكسر ذلك الحاجز واحتشدت الابتهالات وتدفقت البهجة كما لو أنك ولدتَ من جديد، كيف لا وانت ذلك الإنسان الجميل، والقلب النقي، وكما قال جلال الدين الرومي “إن الله لا يحاسب القلب النقي لأنه لن يجد فيه نقطة سوداء”.!
كنت أيها النجيب الحبيب سيرةً ملهمة؛ لم يستطيع تحمل كل هذا الكم من القبح الذي يحاصرنا، وهو ما يدفعنا اليوم لرفع راية الاستسلام والابتهال بالدعاء لروحك الطاهرة في فردوسها الأعلى فالفقد موجع، وما أحوجنا لنجيب جديد يعيد لنا راية الفرح ويمنحنا جزءاً من أمل بأن الحياة لا تموت والوطن لا يشيخ.
لقد مزقتْ الحرب الظالمة الجغرافيا، وتوزع الاصدقاء على بقاعها، وباعدت المسافات بيننا، ها هو الموت يكمل مشواره يخطف الأصدقاء الطيبين دون سابق إنذار ويفجعنا كما لو أنه يختبر قدرتنا على التحمل والصبر والاحتساب. لكنها مشيئة العزيز القدير، سبحانه عز وجل والذي ليس لنا إلا التسليم بقضائه وقدره.
رحمك الله يا صديقي الطيب؛ فإن الوجع والحسرة عليك تكسرنا، وسنظل نجلك في رحيلك كما في حياتك، تاركاً بصمتك وأثرك الطيب في كل بقعة عُرفت بها.
عقود طويلة مرت من الأخوَّة والصداقة، لم ننقطع فيها عن التواصل والاتصال أبدًا، ولم تتغير أو تتبدل، كنت دائما في غاية اللطف، صدوقًا وفيًا لكل ممن هم حولك، عرفتك كبيرا بأخلاقٍ متفردة، وسمات نادرة، وارف الظلال منذ أن كنت طالبا في روسيا ورئيسا لفرع المؤتمر الشعبي هناك وحتى تخرجك منها وصولا إلى عدد من الحقائب الوزارية والإدارية حتى آخر تواصل بيننا.
تفرد الفقيد بصفة الرجل المتوازن في أرائه وقناعاته وفي اسلوب طرحه، هاديء يشبه جدول ينساب ليسقى الزروع بتواضع جم وحب لهذا الوطن الكبير ومواجهة الظلم وذلك ما اكسبك محبة واحترام من الجميع، نجيب استطيع أن أصفه بثقة.. عاش ومات مؤتمرياً وميثاقياً وفيًا لمبادئه وقيمه.
لا أشك يوما بأنه حيثما حل فإن اليمن تسكن عقله وتجول في وجدانه، عاشقا متيما بمدينة إب مثلما هو مفتوناً بصنعاء التي قضى فيها معظم حياته وارتبط بها بوشائج من العشق والحب لا تنفصم عراها يومًا مهما طال البعد عنها، يشعر بالسكينة في عدن، وتمتع بعلاقات واسعة فيها ومع شبابها، وانشطتهم الرياضية والاجتماعية، كما انه ابن المدينة الجميلة، ومسقط رأسه إب مدينة الجمال، الخضراء، متزوج من أسرة حضرمية، بهذا المزيج ارتبط بكل جغرافية اليمن التي يعشقها.
الأحداث الأخيرة التي جرت في ربوع الوطن انعكست على كثير من الشخصيات الاجتماعية التي لديها هم واسع مثلها مثل أي مواطن بلغت به المعاناة مبلغها في التأثير والتأثر ولعل ما يحدث اليوم من تمزيق لأوصال الوطن ونسيجه كان له بالغ الأثر في النفس والروح والجسد.
لا يسعني في هذا المقام إلا أن أعزي نفسي وابنائي الأعزاء محمد واحمد ويوسف ووسام وبناتي الغاليات وكل أفراد الأسرة الكريمة من ال العوج وبامطرف، وكل الاحباء والأصدقاء، عزائي للوطن الذي فقد أحد أهم شخصياته المناضلة الصبورة والمثابرة، عزائي في هذا الفقد الذي لا يضاهيه أي فقد.
وأنا على يقين بأنني سأجد احتفاء يليق بمكانة نجيب وتاريخه السياسي والإداري، من قبل أصدقائه وزملائه ومحبيه وأهله وعشيرته، أدباء وكتاب وشعراء وصحفيين وأعضاء مجلس نواب وشورى وأكاديميين وشباب، وسوف أجد نجيب حاضرًا في كل تظاهرة وفعالية وفي كل مكان كان فيه الأب والصديق والوزير والمعين والخدوم الذي لا يكل ولا يمل.
نسأل الله له الرحمة والمغفرة وأن يعصم قلوبنا جميعا بالصبر انه على كل شيء قدير.